يتمتع معظم الأوروبيين في بلادهم بميزة مجانية التعليم الجامعي، ما يتيح للطلاب الحصول بسهولة على درجات علمية عالية تمكنهم من العمل في أماكن مرموقة، لكن الكثيرين -في ألمانيا مثلاً- يفضلون عدم دخول الجامعة ليصبحوا من ذوي الياقات الزرقاء (طبقة العمال)، مفضلين ذلك على الدراسة الجامعية، ثم العمل في مكاتب وشركات كبرى.
ويجيب عدد من المستخدمين الألمان عن سؤال عرض عبر موقع «Quora» المخصص للأسئلة، ليفسروا لماذا يسلك عدد من الشباب الألمان طريق العمل الحرفي، تاركين الجامعات المجانية.
عامل «ميكاترونيك» سيارات وليس ميكانيكيّاً
إن الأعمال الحرفية التي تحتاج إلى كفاءة لا تعتبر غير محبذة أو غير لائقة، كما يفترض السؤال، ذلك ما يراه المهندس توماس شيلد، المقيم في مدينة شتوتغارت الألمانية، إذ يقول إن الأعمال الحرفية التي لا تحتاج إلى مؤهلات هي قليلة للغاية. ويلفت إلى أن عامل «ميكاترونيك» السيارات (وهو النسخة الألمانية من الميكانيكي) لديه فرص عمل متاحة أكبر من تلك المتوافرة لشخص حاصل على بكالوريوس في تاريخ الفن.
ويضيف شيلد أنه للقبول في أي جامعة ألمانية، هناك مؤهلات يجب أن يحصل عليها الطالب في المدرسة أولاً، وهي شهادة الثانوية العامة المعروفة هناك باسم «Abitur»، ويشير المهندس الألماني إلى أن حوالي ثُلث الطلاب المتسربين من المدارس فقط هم من يحصلون على شهادة الثانوية العامة.
ويختتم شيلد إجابته بأن التعليم الجامعي في ألمانيا هو بالفعل مجاني بالنسبة إلى الرسوم الدراسية، لكن الطلب ما زال يحتاج إلى أن يأكل ويعيش في سكن، ولذلك فهناك إعانة دراسية لكل الطلاب الجامعيين، تسمى «بافوغ» تدفعها الجامعة للطلاب على أن يكون نصفها منحة، والنصف الآخر قرضاً، ويشير إلى أن هذه المنحة تختلف من شخص لآخر بحسب والدي الطالب ودخله الأساسي، فهذه المصاريف المدفوعة تجعل الطالب بالكاد يعيش، ليس أكثر من ذلك. يقول شيلد بصورة عامة فإن المستوى المعيشي للطالب الجامعي في ألمانيا هو بالتأكيد أقل كثيراً من أحد العمال ذوي الياقات الزرقاء.
ما يجنيه عشرة أكاديميين يساوي راتب عامل واحد
المجتمع الألماني غير مقسَّم إلى خريجي جامعات، وآخرين عمَّال، ذلك ما يراه الألماني جينز بوتيجر، ويقول في إجابته عبر الموقع، إن الخيار الآخر بخلاف الجامعة لا يشبه ما هو عليه في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يصبح الشخص محاصراً في كونه عاملاً يفتقر للمهارة. فالعمال يصبحون حرفيين متخصصين، ولديهم تعليم مهني يؤهلهم لتخصصه. مضيفاً أن ألمانيا مجتمع أكثر مساواة بشكل كبير، خصوصاً لأن الألمان لا ينقسمون إلى أغنياء وفقراء بحسب تعليمهم.
ففي ألمانيا يبدأ الفرد عاملاً متدرباً، ثم عاملاً مرؤوساً، ثم عاملاً مسؤولاً، ثم أخيراً فنيّاً، يقول بوتيجر إن هذا التدرج في كل حرفة تقريباً في البلاد، وهذا هو ما يفعله كل من لا يختار الالتحاق بالجامعة، فهم يمكنهم ترك المدرسة، وبدء العمل كحرفيين من سن مبكر، وهو 15 عاماً. ليس الجميع يحبون المدرسة، ولا يجب عليك الاستمرار فيها للوصول إلى المستويات العليا في ألمانيا.
أما قانونيًّا، فحتى تتمكن من افتتاح مشروعك الحرفي الخاص، أيًّا كان تخصصه (نجارة، حدادة، كهربائي، سباكة، بناء، مطعم)، يجب أن تكون وصلت إلى رتبة عامل مسؤول على الأقل. ويقول بوتيجر إن هذه الشهادة (الرتبة) لا يمكن أن تحصل عليها في يوم، فهي سنوات وسنوات من التعليم العملي. إذ تستغرق 3 سنوات لتصبح عاملاً مرؤوساً، ومن 5 إلى 7 سنوات حتى تصبح عاملاً مسؤولاً، ومن 10 إلى 12 سنة لتصبح فنيًّا. ويتساءل بوتيجر هل يمكن أن يتم السخرية من ميل الناس إلى هذا الاختيار؟ وهل يتصور البعض أنهم عمال ذوو أجور ضعيفة؟
الفني يعتبر في الأساس مساوياً لدرجة الدكتوراه، عدا أن المهارات المكتسبة تكون قابلة للتطبيق عمليًّا، ذلك ما يراه بوتيجر، مضيفاً أن الرواتب التي يجنيها عشرة من الحاصلين على الدكتوراه في العلوم الإنسانية من جامعة بيكر الأمريكية، تساوي الراتب الذي يمكن أن يجنيه فني واحد فقط في ألمانيا.
فالجامعات لا تعد الطلاب جيداً ليكونوا مفيدين في بيئة العمل، ويرى بوتيجر –الحاصل على درجة البكالوريوس من جامعة بويزي الأمريكية- أنه بالنسبة إلى الهيبة الاجتماعية فإن المجتمعات ترى أن التعليم الجامعي هو أكثر ثقافة فكريًّا، ذلك فقط لأن الجامعات تتعامل مع النظريات بدلاً عن التطبيق العملي. ويختتم إجابته بأن الوضع في ألمانيا لا يشبه ما هو عليه في الولايات المتحدة، حيث جسد المجتمع مقسم بين خريجي الجامعات العلمية النظرية، وآخرين فقراء ذوي التخصصات الأدبية الإنسانية، الذين يصبحون عمالاً غير حرفيين.
الصف الخامس الابتدائي هو اللحظة الحاسمة
التعليم الألماني ينقسم إلى ثلاث مراحل أساسية، كما يشرح الصحافي الألماني فرانك كيمبر، تبدأ المرحلة الأولى بالتعليم الأساسي، وهي ثابتة بالنسبة لكل الطلاب، ثم المدرسة الثانوية، وأخيراً التعليم الجامعي، أو الخيار الآخر وهو مدرسة التعليم الفني، أو الصناعي.
في ولاية بافاريا الألمانية، يعتبر الصف الخامس الابتدائي هو اللحظة الحاسمة للتلاميذ ذوي 11 أو 12 عاماً، يقول كيمبر أنه بحسب أداء التلاميذ في هذه المرحلة يحصلون على شهادة تؤهلهم للالتحاق بإحدى المدارس الثلاث، «Main School» أو «Real School» أو «جيمانيزيوم»، حيث المناهج في كل منها وطبيعة المواد الدراسية تكون مصممة خصيصاً لتتناسب مع مستوى المهارات والوظائف التي يمكن أن يحققها هؤلاء التلاميذ.
إن ذلك النظام بقدر بساطته فهو قاسٍ، يقول كيمبر: إذا لم تحصل على نتائج جيدة في عمر عشر سنوات، قد تحصل على الشهادة التي تجعلك تلتحق فقط بـ«Main School»، وحينها ستشغل وظائف لا تتطلب الكثير من المهارات. أما إذا كنت تريد أن تلتحق بالجامعة، فيجب عليك أن تنهي دراستك في الـ«جيمانيزيوم» بنجاح، ولبعض التخصصات الجامعية يجب أن تكون نتائجك في هذه المدرسة بتقدير امتياز.
وذلك يعني –بحسب كيمبر- أنه على رغم مجانية التعليم الجامعي لدراسة طب الأسنان مثلاً، فإن عقبات قبولك في الجامعة كبيرة للغاية، ويجب أن تكون على الطريق الصحيح منذ طفولتك لتستطيع أن تصل إلى المرحلة الجامعية.
لكن هذا أيضاً يعني أن أطفال الأسر الغنية ذات التعليم الجامعي الراقي لديهم فرصة أكبر لتطوير ذواتهم عن أقرانهم الذين نشؤوا في أسر فقيرة، تفتقر إلى المال والوقت والتعليم الجيد، لدعم أطفالهم بشكل كامل للوصول إلى الجامعة.
ويختتم كيمبر بأن التلميذ الذي يخطط للوصول فقط إلى «Main school»، فسيكون من الصعب بالنسبة له تحقيق الدرجات التي تمكنه من دخول الجامعة. لذا فإن التلاميذ الذين يقررون السعي للالتحاق بالجامعة بعد إنهاء التعليم الأساسي يكونون الأكثر حرماناً في نظام التعليم الألماني. ويقول كيمبر: «على حد علمي فإن ألمانيا تتلقى انتقادات باستمرار من قبل خبراء الأمم المتحدة، بخصوص ذلك الأمر بالتحديد».
المصدر: ساسة بوست