في عام 1870، وبينما الحرب مستعرة في دول البلقان وشرق أوروبا مع الدولة العثمانية وروسيا، وبينها وبين بعضها، بدأت روسيا محاولات القضاء على الثقافات المحلية في هذه المنطقة، والتي كان من بينها بولندا، فحولت اللغة الرسمية في الجزء الروسي إلى اللغة الروسية. بينما احتفظ الجيلكيون في بولندا ببعض الاستقلالية في الجزء التابع للنمسا.
في هذه الظروف ظهر العالم البولندي الفيزيائي والخبير اللغوي لوديك زامنهوف عام 1870 والذي أراد تصحيح هذا المسار الذي رأى أن سببه الرئيسي حرب الهوية القائم بين العديد من الأطراف في منطقة شرق أوروبا، فكان المتحدث بلغة مختلفة عن الآخر يُعتبر عدو؛ لذا اعتقد زامنهوف أن الحل يكمن في اختراع لغة تجمع بين القوميات المتطاحنة ويتواصل بها الجميع، إذ آمن أن هذا سيكون السبيل لتحقيق السلام؛ فكانت لغة «الإسبرانتو».
«الاسبرانتو "Esperanto" لغة عالمية وغير مرتبطة بشعب معين، فهي تسمح لمن يتحدث بها أن يتعرف على عالم بلا حدود، حيث يشعر وهو في بلده أنه في كل البلدان. فمن خلالها يكتشف المرء كل الحضارات وكل الثقافات»، هكذا قال الممثل إنطوان غانم، ممثل مشروع اسبرانتو في الشرق الأوسط في صحيفة الحياة اللندنية.
اختُرِعَت لغة الاسبرانتو بداية الأمر في عام 1887، كمشروع لغوي يحاول التجميع بين الأطراف المتصارعة وحلحلة الصراع في ذلك الوقت في شرق أوروبا، لكن سرعان ما تخطت اللغة هذه الحدود؛ إذ أصبحت أحد أهم اللغات التي تحاول الانتشار لتكون اللغة الأولى حول العالم، ولتحل محل اللغة الإنجليزية.
لم يكن من الطبيعي في ذلك الوقت أن تُصنع لغة ما وتُطرح؛ لتصبح لغة متداولة وشائعة حول العالم! لكن زامنهوف سعى لإيجاد هذه اللغة المشتركة والمحايدة التي يستطيع الناس من مختلف المشارب والثقافات استخدامها كلغة ثانية بجانب لغتهم الأم.
اللغة الأسهل حول العالم
تنتشر الإنجليزية البريطانية كلغة تُدرس في معظم المناطق التي كانت في الماضي مستعمرات للإمبراطورية البريطانية، في حين تنتشر الإنجليزية الأمريكية في باقي بلدان العالم بثقافة مختلفة عن نظيرتها البريطانية، في الوقت الذي تحاول فيه الإنجليزية الأسترالية الحفاظ على لهجتها في منطقة آسيا والهادي أمام هذا الصراع الثقافي بين اللهجات الإنجليزية المختلفة والمتنوعة إلى حد كبير. هذا فضلاً عن الإنجليزية الهندية والروسية والعديد من اللهجات المحلية المتنوعة.
ووفقاً لتقرير أعده المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (Chatham House)، فإن بعض خبراء اللسانيات يرون أن الإنجليزية في طريقها للتشرذم؛ بسبب هذا التنوع اللغوي الكبير الذي يصل حده أن أبناء اللغة الواحدة قد لا يستطيعون فهم بعضهم البعض، إذ دعا البعض تطوير لغة قائمة بذاتها تحتوي على نسخة محدودة من أساسيات اللغة أُطلق عليها «Globbish».
وفي الصدد أنشأت موسوعة «ويكيبيديا» نسخة خاصة بهذه اللغة؛ بغرض تسهيل التواصل بين المتحدثين باللغة الانجليزية. وهذا ما يُعرِّض اللغة الإنجليزية لخطر الاندثار، كما يتنبأ بعض الخبراء، وظهور لكنات محلية تبتعد عن الإنجليزية الأصلية.
في المقابل، أُعدت الاسبرانتو للتوافق مع الثقافات المختلفة والمتنوعة وإيجاد مساحة مشتركة بينهم للتواصل عبر مفاهيم تتساوى الأفهام في التعامل معها، وبالتالي لن يكون هناك أفضلية لأحد على أحد – كما هي الإنجليزية – عند استخدام الاسبرانتو لأنها ستبقى دوماً لغة ثانية، في حين تظل الأفضلية لمتحدثي الإنجليزية الذين يتميزون بتفردهم باللغة كلغة أولى عن من سواهم ممن يمارسون الإنجليزية كلغة ثانية. فدائماً ما تعطي اللغة قوة مضافة للمتحدثين الأصليين بها.
لذا تصاعدت العديد من النداءات لاعتماد الإسبرانتو كلغة رسمية من الإتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، عن طريق العديد من الفعاليات منها تجميع توقيعات على موقع آفاز وحملة تعريفية على موقع change والعديد من المبادرات الأخرى. كما يرى العديد من متحدثي الاسبرانتو أن اللغة الانجليزية تعتبر نوعاً من أنواع الهيمنة على العالم من بريطانيا قديماً والولايات المتحدة في عصرنا الحالي.
أما عن سهولة الاسبرانتو بالمقارنة مع اللغة الانجليزية والعديد من اللغات الأوروبية، فتُعتَبر الاسبرانتو الأسهل على الإطلاق، لاحتوائها على 16 قاعدة فقط لا توجد بها أي استثناءات، أي أن قواعد تصريف الأفعال وتكوين الجمل والتعرف على الفرق بين الاسم والفعل والنعت والظرف لا يوجد به أي شاذ عن القاعدة. كما تمتلك اللغة أداة تعريف واحدة تُستخدم في جميع الحالات «المفرد والجمع، المذكر والمؤنث» وهذا ما يُسهل على المتعلم والمتحدث إتقان الأمر سريعاً وعدم التفكير كثيراً عن الحديث كما هو على غير العادة في معظم اللغات حول العالم.
تنتهي جميع الاسماء في الإسبرانتو بحرف الـ«o» كما تنتهي جميع الصفات بحرف الـ«a»، كذلك فكل الأفعال المضارعة تنتهي بـ«as» وفي صيغة الماضي تنتهي بـ«is» والمستقبل بـ«os».
ولا تختلف هذه القواعد بتغير الضمير إن كان مذكراً أو مؤنثاً، جمعاً أو مفرداً. وبإضافة «in» على أي كلمة تُحول إلى المؤنث. وتحتوي اللغة على الأداة «la» فقط للتعريف، وفي حالة التنكير لا تُضاف أية أدوات، وبهذه البساطة تتكون كل قواعد اللغة.
أما عن المفردات فأغلبها مأخوذة من اللغات الرومانسية «الإسبانية، الإيطالية، الفرنسية، ..» والجرمانية «الإنجليزية، الألمانية، الهولندية، …» والسلافية «لغات دول شرق أوروبا»، وجزء منها مأخوذ من اللغات الشرقية بما فيها اللغة العربية. وبالتالي تعد أحد أهم مميزات الاسبرانتو: التعرف على طبيعة تكوين اللغات والقدرة على تعلم العديد من اللغات بعد إجادة الاسبرانتو بسهولة ويسر. أيضاً؛ تُعد أحد أكبر مميزات اللغة التعرف على الثقافات المختلفة عن طريق التعرف على متحدثي الاسبرانتو حول العالم، وأن تكون واحداً من سفراء الإسبرانتو.
سفراء الإسبرانتو حول العالم
لم تكن الإسبرانتو أولى اللغات المصطنعة، فقد ابتكر القس الألماني يوهان مارتن شليار لغة الفولابوك (Volapük) عام 1879، لكن من المؤكد أن لغة الاسبرانتو هي اللغة المصطنعة الأولى عالمياً من حيث الانتشار وعدد المتحدثين الذين يُقدر عددهم بنحو 2.7 مليون مستخدم لفيسبوك حول العالم. وبات المؤتمر السنوي العالمي الذي يُقام كل عام في مدينة مختلفة يجذب آلاف المتحدثين باللغة كل عام.
كما أصبح لدى المتحدثين بالاسبرانتو العديد من المجموعات والصفحات على الكثير من شبكات التواصل والتي يعتبر أهمها مجموعة Esperanto على فيسبوك التي تجمع أكثر من 21 ألف ناشط يتداولون فيما بينهم أهم الأحداث حول العالم ويتناقشون حولها ويتحدثون عن مستقبل اللغة والتواصل العالمي. ويضم موقع تعليم اللغات الاشهر على الاطلاق «ديولينجو» 736 ألف متعلم للإسبرانتو متفوقة بذلك على لغات مثل الفيتنامية والأوكرانية.
ودائماً ما يتميز متحدثو الإسبرانتو بحب اللغات والتعرف على الثقافات المختلفة، وجلهم يستطيع التحدث بالعديد من اللغات، فمن الطبيعي أن تتعرف في مسار تعلمك للغة على الكثير من الـ«polyglots» أي من يتحدثون سبع لغات أو أكثر بطلاقة، بين متحدثي الاسبرانتو، كما يحاول الكثير تعلم اللغة في ثلاثة أشهر فقط عبر برنامج تدريبي يتمكنوا خلاله إجادة اللغة في وقت زمني قصير وببراعة، مثل تجربة بيني مع صديقته لورين.
ينتشر متحدثو الإسبرانتو في أوروبا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، كما يتواجدون في منطقة شرق آسيا والصين والهند، ويتواجدون بقلة في العالم العربي. من بين كل هؤلاء يوجد في كل دولة من يعتبرون أنفسهم سفراء للغة بتعلمهم لها، ويبدأون رحلتهم في نشرها والانخراط في فعاليات للمتحدثين بها ومن أبرز هؤلاء، على سبيل المثال وليس الحصر:
من الآن أصبح بإمكانك بدء التعلم للتواصل مع كل هؤلاء وأكثر من جميع أنحاء العالم والتعرف على السمات المشتركة بين كل هؤلاء. كل ما عليك بدء تعلم اللغة خلال ثلاثة أشهر عن طريق المصادر التالية:
انتشار الإسبرانتو عالمياً.. ومصادر التعلم
بالرغم من أن فكرة إنشاء لغة مصطنعة وانتشارها كانت فكرة غريبة منذ قرن من الزمان، إلا أن الاسبرانتو أصبح حقيقة على أرض الواقع وصار وافداً في أسرة اللغات الحية بغض النظر عن طريقة نشأته. ففي تاريخ الإسبرانتو القصير، كُتب بها أدب وشعر، وأُنتج بها أفلام وأغاني، وأصبح لغة مستخدمة في السفر، وطُبعت الصحف والجرائد بها، وبُثت الإذاعات بها من أماكن متعددة. وكُتبت به الكتب والمراجع. كما يوجد نسخة من القرآن الكريم بالإسبرانتو.
لكن لم يقف الأمر عند هذا، إذ أُنشئ علماً خاصاً باللغة ونشيداً لها -كالأناشيد القومية- والأهم من ذلك كونجرس خاص يُنتخب فيه الأكثر نشاطاً حول العالم من المتحدثين بها ليكونوا في مجلس الاسبرانتو الذي يعمل على دعم اللغة بكافة الأشكال. ويتخذ رئيس الكونجرس قصراً مخصص في هولندا مقراً له حيث يُنتخب كل عامين وفقاً لأهمية نشاطه عالمياً، كما يمكنه تجديد فترة رئاسته.
وبهذا امتلكت الاسبرانتو عدة مؤسسات دولية تعمل على تنشيط تعلم اللغة في الأوساط المختلفة؛ مثل مؤسسة الاسبرانتو العالمية «Universala Esperanto Asocio – UEA» ورابطة صحفيي الاسبرانتو بالعالم «Tutmonda Esperantista Ĵurnalista Asocio – TEĴA».
كما أصبحت اللغة معترفاً بها من اليونيسكو في محاولة لحياة دون عنف ويقوم التعاون على أساس التعليم كحق لكل إنسان في هذا العالم المليء بالفوضى. لكن يتوقع بعض متحدثي الاسبرانتو أن في الوقت الذي سيُدرس الاسبرانتو في المدارس ستبدأ حرب الولايات المتحدة على اللغة؛ خوفاً على مصالحها التي تعتمد على اللغة الإنجليزية كلغة عالمية. لذا أُعلن عن بيان براغ، وهو بيان أعضاء الحركة الدولية لترقية اللغة العالمية الاسبرانتو، التي تعلن فيه عن مبادئها وأهدافها.
كذلك استخدمت بعض المؤسسات الدولية الاسبرانتو كلغة رسمية لها مثل مؤسسة اللاوطنية الدولية «Sennacieca Asocio Tutmonda» وهي مؤسسة ثقافية مستقلة ذات توجه سياسي يساري. كما كان الإسبرانتو لغة رسمية لجزيرة روز ، وهي جمهورية تقع بالقرب من إيطاليا.
ومن أكبر المنجزات للغة الاسبرانتو خدمة pasporta servo – خدمة جواز السفر – وهو خدمة لمتحدثي الاسبرانتو حول العالم في 90 دولة يتمكن من خلالها أصحاب اللغة الإقامة في أحد منازل متحدثي الاسبرانتو في البلد الذي يتوجهون إليه. وتكون الإقامة بشكل مجاني أو بأجر رمزي.
أما عن مصادر تعلم الاسبرانتو المجانية، فهي كثيرة، أهمها موقع lernu وهو أحد أكبر المواقع لتعليم الإسبرانتو، كذلك يوفر موقع Duolingo برنامجاً تدريبياً لتعلم الاسبرانتو. كما يوجد في هذه المجموعة الخاصة بمتحدثي الإسبرانتو العرب العديد من المصادر العربية المجانية لتعلم اللغة، ومن خلالها يمكن التواصل مع متحدثي الإسبرانتو الناطقين باللغة العربية.
وعليه إن أردت تعلم اللغة فما عليك إلا توفير بعض الوقت والبدء من الآن.
المصدر : ساسة بوست