على الأغلب سمعت بهذا الاسم من قبل: الانترنت العميق (Deep Internet) قد تكون عيناك مرت عليه سريعاً كعنوان لمقال ما أو خبر هناك. هناك أيضاً ذلك الاحتمال بأنك قد اصطدمت بمصطلح آخر: الانترنت المظلم (Dark Internet) وعلى الأرجح وللأسف وجدت المصدر يستخدم المصطلح نفسه كمرادف للانترنت العميق وأنهما الشيء ذاته. هذا ليس صحيحاً إلى حد كبير!
قبل أن ننطلق، يجب أن أنوه أننا سنلجأ للاستعارة البلاغية في بعض الأحيان بينما نستكشف الأمر سوياً هنا. لا يبدو هذا مستغرباً في الواقع لأننا نتناول شيء بلا وجود مادي ملموس. دعك من السيرفرات وأجهزة الحاسب الآلي بما فيها حاسبك أنت شخصياً أو هاتفك المحمول الذي تقرأ منه هذا المقال إن اعتقدت أنها تُكسب الانترنت جسداً أو تمنحه بعض الملمس؛ فهذا أشبه بغلق إناء طهي على بعض الهواء ثم القول أن الهواء ملموس وذو كتلة. تقول أن للهواء كتلة بالفعل؟! حسناً أيها المتحذلق، للانترنت كتلة هو الآخر لكنها خفيفة الوزن بشكل لا يصدق … 50 جرام لا أكثر للانترنت بأكمله! هذا يعادل وزن ثمرة فراولة متوسطة الحجم. لكن هل يشمل هذا كل الانترنت حقاً، حتى الجزء غير الظاهر منه؟ فلنبدأ معاً…
الرغوة الكثيفة على سطح الماء
سنبدأ رحلتنا بالسطح حيث تعلو الأمواج ثم تتكسر في صخب معلنة أن هناك محيط ثائر هنا. إنها الأشياء التي يرتبط مصطلح الانترنت بها في أذهاننا، وهي الأشياء التي أعلمها أنا وتعلمها أنت جيداً ونستخدمها كل يوم. الانترنت السطحي (Surface Web) هو أي شيء يمكن فهرسته وتصنيفه من قبل محركات البحث التقليدية مثل Google، Bing و Yahoo. ببساطة، أي موقع يمكنك الوصول إليه عبر محركات البحث التقليدية التي تستخدمها كل يوم يقع مباشرة في قلب الانترنت السطحي.
يمكننا القول إذن أن الانترنت السطحي (Surface Web) هو الانترنت المرئي لنا، وهو بشكل عام كل ما يمكننا التفكير به من مواقع ساكنة Static مثل جوجل، فايسبوك، يو تيوب، موقع عالم الإبداع، موقع صحيفة النيويورك تايمز، وغيرها من المواقع.
هكذا نستنتج أن الانترنت السطحي يتكون من الصفحات الثابتة والساكنة التي لا تعتمد على قواعد بيانات لعرض محتواها، بل تقوم على خادم Server ينتظر أن يسحب منه الموقع البيانات أو المعلومات حسب الطلب. وبشكل أساسي تتكون هذه المواقع من صفحات HTML ولا يتغير محتواها أبداً بمرور الوقت إلا إذا قام مديروها بتغيير كود HTML ليتم بعدها رفع النسخة الجديدة من الصفحة إلى الخادم من جديد.
ووفقاً لأحدث التقديرات (30 مايو 2016)، فإن الانترنت المفهرس أو السطحي يحوي ما لا يقل على 14 مليار صفحة. وبينما يبدو الرقم مهولاً للوهلة الأولى، ينبغي أن نتذكر أن الحياة التي تموج بها أعماق البحار والمحيطات أكبر وأكثر تنوعاً مما هي على السطح الظاهر. وهذا هو الحال مع الانترنت العميق (Deep Web).
فلنغُص أعمق قليلاً…
إذا كان الانترنت السطحي هو أي شيء يمكن لمحرك بحث تقليدي أن يجده، فالانترنت العميق Deep Web هو كل وأي شيء لا يمكن أن يجده محرك البحث أو حتى يراه.
الانترنت العميق هو كل ما لم تقم أو لم تستطع محركات البحث فهرسته وتصنيفه، وهذا يعني أنه يتوجب عليك زيارة تلك الأماكن بعينها مباشرة بدلاً من البحث عنها. هذا أشبه بعنوان صديقك المقرب في حارة أو زقاق غير معروف. لا توجد إرشادات أو لافتات طريق واضحة، لكن المنزل هناك ينتظرك إن كان لديك العنوان بالضبط.
لا أسرار هنا في الواقع، بل الأمر يعتمد على الطريقة التي تعمل بها محركات البحث. محركات البحث تعتمد على الراوبط، أي أنها توفر لك روابط لزيارة موقع يحوي الكلمات الدلالية التي كتبتها في المقام الأول، وبعدها تضغط أنت على الروابط التي ترى أنها ستوصلك إلى وجهتك حقاً. لكنها لن تساعدك أبعد من هذا!
فلنضرب مثلاً بموقع Amozon الشهير. يمكنك البحث في محركات البحث التقليدية للوصول إلى هذا الموقع بالتحديد، أو حتى للحصول على منتج بعينه داخل هذا الموقع بتوفير اسمه قبلاً ، لكن جرب مثلاً أن تبحث في جوجل عن أغطية هاتف آيفون يتراوح سعرها بين 20 – 50 دولار وتمت إضافتها منذ أربعة أيام مع شحن مجاني. ساعتها ستجد روابط لكل شيء عدا نتيجة بهذه الدقة والتحديد التي طلبتها! والسبب؟ لأن ما طلبته ليس له رابط مباشر يمكن لمحرك البحث التعرف عليه. هذه منطقة “عميقة” لا يمكن لمحرك البحث الوصول إليها، والشيء الذي يمكنه مساعدتك هنا فقط هو الاستعانة بشريط البحث داخل الموقع نفسه لأن الموقع بالضرورة قام بفهرسة وتصنيف المنتجات والعناصر بداخله مما يمكّنه هو، وهو فقط، من البحث عن شيء لا يعلم أحد بوجوده بعد… شيء لا يوجد أصلاً إلا إذا أراد الباحث أن يوجد!
هكذا نرى أن الانترنت العميق لا يعني بالضرورة محتوى سري، بل هو سري بقدر سرية دكان البقالة في نهاية شارعكم! إنه سري لمعظم الناس لأنهم لا يسكنون الشارع نفسه أو لا يعلمون كم هو لذيذ ذلك الزيتون الأسود الذي يبيعه! هذه معلومات غير سرية على الإطلاق، فقط هي و”عميقة” وغير ظاهرة بعد.
هذا كله يعني أن محركات البحث لا تستخدم شريط البحث في المواقع، بل تستخدم الروابط التي يوفرها كل موقع بداخله فقط، وما دون ذلك يبقى كجزء من محتوى الانترنت العميق. لذا، يمكننا العثور على أمثلة أخرى لمحتوى الانترنت العميق في كل مرة تبتعد فيها عن جوجل وتبحث مباشرة داخل موقع غني بالمعلومات كقواعد البيانات الحكومية والمكتبات الرقمية. هذه آبار تحوي كميات هائلة من بيانات الانترنت العميق! وهناك أمثلة أوضح للانترنت العميق تشمل سجل محكمة ولاية نورث داكوتا الأمريكية North Dakota Court Record Search، وقاعدة بيانات الرخص الطبية بولاية فلوريدا Florida Medical License Database، حيث سنجد هنا أن جوجل لا يستطيع النفاذ لما هو وراء نتائج شريط البحث الداخلي بهذه المواقع!
هذا مخيب للآمال بالتأكيد! الأمر إذن ليس مخيفاً أو سرياً كما تروج وسائل الإعلام؛ هو فقط نوع معين من المحتوى الذي يتطلب وسيلة بحث خاصة. لكن الأمر على وشك التغير إذا ما توغلنا أعمق قليلاً… حيث سنجد الانترنت المظلم Dark Web.
الظلام حالك هنا…
إذا كان الانترنت العميق Deep Web هو كل ما لا تستطيع محركات البحث النفاذ إليه أو العثور عليه، فإن الانترنت المظلم Dark Web يتم تصنيفه كجزء صغير من الانترنت العميق تم إخفائه عن عمد وغلقه أمام المتصفحات العادية التي نستخدمها مثل موزيلا فايرفوكس وجوجل كروم وسافاري. هذا شيء لا يحب الأضواء كثيراً ولا يجب أن تراه الأعين عادة!
لهذا، فالطريقة الوحيدة للنفاذ إلى هذا الجزء الخفي والمظلم من الانترنت هي بإخفائك أنت الآخر! ولحسن الحظ، فلا حاجة لإخفائك شخصياً، بل نحتاج لإخفاء هويتك وكيانك الذي يمثلك على الانترنت وهو بروتوكول الانترنت IP الخاص بجهازك الذي تستخدمه. والبرنامج الأشهر هنا لتحقيق هذا والنفاذ إلى الانترنت المظلم هو متصفح شركة The Onion والمعروف باسم TOR؛ حتى أن هناك شبكة كاملة في الانترنت المظلم تدعى شبكة TOR ولا يمكنك تصفح محتواها إلا من خلال المتصفح الذي يحمل نفس الاسم TOR. بالطبع هذا أمر لم يعجب هيئات الرقابة حول العالم ومن ضمنها أجهزة الاستخبارات في كل دولة، وهكذا بدأت في ابتكار وسائل لاستهداف وتعقب من يستخدم متصفح TOR أصلاً!
لكن هل الأمر بهذه الخطورة حقاً؟ هل حان الوقت لبعض الإثارة بعد خيبة الأمل في الانترنت العميق؟ أجل، إلى حد كبير! فعلى الرغم من أن الانترنت المظلم هو مكان ممل للغاية في أغلبه حيث يلجأ إليه العلماء لتخزين وحفظ نتائج أبحاثهم الخام قبل تداولها مع العامة لاحقاً، إلا أن هناك عدد من الأسواق الخفية والمجهولة التي وجدت في الانترنت المظلم غايتها لبيع وتجارة منتجات ممنوعة وغير قانونية كالمخدرات والأسلحة وغيرها.
أسواق الانترنت المظلم
كان موقع طريق الحرير Silk Road هو أول سوق خفي ينجح حقاً في التواجد على الانترنت المظلم. فعقب تأسيسه في عام 2011، قدّم موقع طريق الحرير منصة تجارية شبيهة بمنصة موقع آمازون الشهير، حيث كان باستطاعة الزوار شراء وبيع منتجات أو خدمات غير تقليدية وغير مرخصة لا سقف لنوعيتها باستخدام عملة رقمية لا يمكن تتبعها وتدعى بيتكوين Bitcoin. على الأغلب سمعت باسم هذه العملة بالفعل، ومن المُحتمل جدا أنك سمعت بأخبار تجاوز بيتكوين لحاجز 1000 دولار صعوداً أو نزولاً!
حقق الموقع نجاحاً غير مسبوق بعدما وجد فيه الكثيرون المكان الأنسب للترويج لبضاعتهم المشبوهة والغير قانونية بعيداً عن أعين جهات الرقابة العامة، خاصة في دول العالم الثالث الذي لا يدري معظمها بوجود مثل هذه الطبقة السرية والعميقة من الانترنت. لذا، وحتى إغلاقه في 2013 عن طريق وكالة الاستخبارات الفدرالية الأمريكية FBI، نجح موقع طريق الحرير في اجتذاب ما يزيد عن 1400 بائع وأكثر من مليون عضو مسجل في الموقع، مع تحقيق أكثر من 1.2 مليون عملية شراء وبيع بقيمة 214 مليون دولار! كل هذا في عامين فقط لا أكثر!
والخبر المزعج هنا أن أسواقاً مظلمة أخرى قد حلت محل موقع طريق الحرير المشئوم، مثل أسواق Agora و AlphaBay ليستمر هذا النوع الخفي من الأنشطة غير القانونية بعيداً عن الأعين ودون رقابة.
لا زلت ترغب في النفاذ إلى الانترنت المظلم؟
الأمر ليس عسيراً في الواقع. كل ما تحتاجه هو التوجه إلى موقع TOR وتنزيل حزمة متصفح TOR والتي تحوي كافة الأدوات المطلوبة. عقب اكنمال التحميل، قم بفك الملف المضغوط وقم بتشغيل متصفح TorBrowser. سيستغرق الأمر بعض الوقت لتأمين هويتك وضبط بعض الإعدادات سريعاً دون تدخل منك على الإطلاق. وعقب الانتهاء سيفتح المتصفح صفحة البداية لك.
الجزء الأصعب هنا هو معرفة أين تبحث أو أين تبحر في هذا الجزء المظلم من الانترنت. لكننا كذلك نحذرك ولا نشجعك على المخاطرة والولوج إلى هذا الدغل الموحش دون دراية كافية. فحالما دلفت إلى عالم الانترنت الخفي، ستستطيع النفاذ إلى أماكن ومحتوى لا يمكن توقعه، وهذا يعني أن هناك من يستطيع عكس الأمر واصطيادك أنت الآخر! لذا فالنصيحة الذهبية هنا هي وضع شريط لاصق على كاميرا الحاسب الشخصي الخاص بك وكذلك على منفذ الميكروفون به لأن هناك من يضع نظارات رؤية ليلية في هذا العالم المخيف والمظلم من الانترنت. ولتتذكر دوماً أنك قد تكون على بعد ضغطة واحدة من مواقع تبيع المخدرات والأسلحة، وأشياء أخرى أسوأ وأشد خطورة بكثير في الواقع.
ولا أنسى في النهاية أن أقول شيئاً هو الأهم هنا: هذا المقال لا يقصد به بأي حال من الأحوال أن يكون دليلك للولوج إلى الانترنت المظلم Dark Internet، وكذلك لا نشجعك بتاتاً على تجربة الأمر أو التصرف بأي شكل غير قانوني أو أخلاقي.
المصدر : عالم الابداع