يبدأ الجسد البشري تكونيه بخلية وحيدة، وينتهي بنا المطاف إلى بشر متنوعين، بملايين الخلايا التي يؤدي كلٌّ منها وظيفة مختلفة وفريدة. إذ على الرغم من أن خلايانا تحتوي على بصمة وراثية واحدة، «الحمض النووي الخاص بنا»، إلا أنهم لا يؤدون الوظائف ذاتها، الخلايا العصبية على سبيل المثال، تختلف تماماً عن خلايا الجلد، والتي تختلف بدورها هي الأخرى عن خلايا العضلات. فكيف يمكن أن تصبح خلايانا الناتجة عن بصمة وراثية واحدة ومحددة بهذا التنوع؟ وهل يعني ذلك أننا قد نكون قادرين على توجيه الخلايا والجينات الكامنة في أجسامنا إلى صالحنا؟
ماذا تعرف عن «علم التخلق» وتغير النشاط الجيني؟
يعبر علم الوراثة اللاجيني أو علم التخلق (Epigenetics) والذي يعني ما فوق الجينات – أي خارج إطار الجينات – عن التغييرات التي تنشأ في «النشاط الجيني» لأسباب غير جينية، عن طريق دراسة تأثير العوامل البيئية والخارجية على طريقة عمل الجينات.
لفهم «علم التخلق» يجب علينا أن نفهم أولاً مصطلح «التعبير الجيني»، والذي يفسر اختلاف وظائف خلايانا عن بعضها البعض رغماً عن أنهم جميعاً يحملون الحمض النووي ذاته. يمكنك تبسيط الأمر، عن طريق التفكير في الخلايا التي تحتل عضو من أعضاء جسدك مثل الكبد، ومقارنتها مع خلايا الجلد، أو الشعر، أو الخلايا العصبية، فعلى الرغم من أن كل هذه الخلايا تحمل الحمض النووي ذاته، إلا أن خلايا الكبد تقرأ البصمة الوراثية بطريقة تختلف كلياً عن خلايا الجلد، وهو ما يعرف بـ«التعبير الجيني»، أو الطريقة التي تقرأ بها الخلايا الجينات.
على الرغم من أن «التعبير الجيني» يحدث بطريقة طبيعية ومنتظمة، إلا أنه في الوقت ذاته يتأثر بعدة عوامل خارجية وبيئية؛ بعضها يعتمد على نمط الحياة والسلوك، وهو ما نهتم به عند دراسة «الوراثة اللاجينية». يحدث هذا الأمر عن طريق علامات «فوق جينية» تتواجد داخل أحماضنا النووية، يمكنك التفكير فيها، وكأنها إشارات مرور إرشادية تساعد الخلايا على قراءة المخطط الجيني؛ إذ تعمل مثل تنبيهات كيميائية ترسل إشارات للخلايا وتتحكم في مدى النشاط الجيني؛ بمعنى تحديد أي الجينات يجب أن ينشط، وأيها يثبط. وفي الوقت الذي لا يمكننا فيه تغيير تسلسل الحمض النووي الخاص بنا، يشير العلماء إلى إمكانية تغيير الطريقة التي تقرأ بها أجسامنا التسلسل النووي.
على سبيل المثال تعمل العلامات فوق الجينية بطريقة شائعة، كأن تندمج الخلايا داخل نسيج الكبد أو المخ، كما يمكن أن يكون لها أيضاً بعض التأثيرات الضارة؛ كأن تؤدي إلى أمراض السرطان عندما تصبح العلامات فوق الجينية في مكان غير صحيح.
كيف يمكن للبيئة والسلوكيات أن تؤثر على طريقة عمل الجينات؟
يشير العلماء إلى أن كل شيء تعلمناه عن الجينات كان خاطئاً، إذ اعتاد العلماء على التفكير في الجينات البشرية وكأنها شيء يتحكم في بيولوجيا أجسامنا ولا يمكن تغييره؛ لأنه محمل ببصمتنا الوراثية، فإذا ولدت بمجموعة «فاسدة» من الجينات، هذا يعني أنك عرضة للأمراض الوراثية، وليس هناك ما يمكن أن تفعله بشأن ذلك. وهو أمر أثبت مجال الوراثة اللاجينية عدم صحته؛ فنحن لسنا خاضعين لجيناتنا كما اعتدنا أن نظن.
كان الهدف الأولي من الدراسات في مجال الأبحاث الجينية هو إيجاد الجينات المسؤولة عن الأمراض، واستخدامها في صناعة عقاقير تعمل على التحكم في الجينات «المعيبة»، وتدر الأرباح الهائلة على شركات الأدوية. بالرغم من ذلك أتى علم «الوراثة اللاجينية» حاملاً للبشرية أخباراً سارة، بأن القدرة على التحكم في الجينات تنبع أساساً من داخلنا.
«علم التخلق» في الأساس هو دراسة تأثير السلوكيات والبيئة على طريقة عمل الجينات. إذ يحدد كيف يمكن للتغييرات البسيطة في النشاط الجيني أن تؤثر على طريقة قراءة الخلية للجينات. على سبيل المثال، يمكن للتحويل إلى نظام غذائي أكثر صحة وللتمارين الرياضية أن تؤدي بالفعل إلى تغييرات جينية فعلية، وذلك دون المساس بالحمض النووي.
في الحقيقة تتأثر العلامات فوق الجينية بالتقدم في العمر والشيخوخة، كما تتأثر بالبيئة المحيطة والسلوكيات الخاصة للفرد، وهو الأمر الذي يعني أن نشاط الجينات غير ثابت أو مستقر كما اعتقد العلماء سابقاً، بل يمتاز بالمرونة ويتأثر بالعوامل الخارجية؛ مما يشير إلى أن الطب الحديث بإمكانه التدخل في نشاط بعض الجينات لتغييرها، وبالتالي هناك أمل في شفاء الكثير من الأمراض مثل السرطان.
اعتاد العلماء التفكير فيما يمكن أن تسببه الأنظمة الغذائية الضارة من أمراض جسدية مثل «تصلب الشرايين»، إلا أننا لم نفكر فيها من قبل كوسيلة للتحكم في الجينات. عن ذلك يشير علماء التغذية الجينية – وهو فرع من العلوم يدرس العلاقة ما بين التغذية والجينات الوراثية – إلى أن هناك علاقة وطيدة ما بين الأنظمة الغذائية والعلامات فوق الجينية التي بإمكانها التحكم في «النشاط الجيني» للخلايا. إذ يمكن لما نتناوله من طعام أن يعمل على تعديل التعبير الجيني الخاص بنا، سواء للأفضل أو للأسوأ؛ مما يؤثر بالتالي على الصحة.
ليس ما نأكله فقط هو ما يحدد هويتنا، بل للسلوكيات والعادات أيضاً تأثير مماثل على صحتنا، التمارين الرياضية مثلاً بإمكانها أن تحقق التأثير ذاته على النشاط الجيني وتعديل قراءة الخلايا للتسلسل النووي الخاص بأجسامنا، فكلما كنا أكثر تحكماً في نمط حياتنا الذي نتبعه، انعكس ذلك على أجسامنا وصحتنا، وهو ما يعمل على تقليل مخاطر الإصابة بالكثير من الأمراض، بحسب باحثي «الوراثة اللاجينية».
عقلك أيضاً يمكنه التحكم في جيناتك!
في عام 2014 طور مجموعة من الباحثين السويسريين بقيادة مارتن فوسينيجر أستاذ الهندسة الحيوية، طريقة جديدة للتحكم في الجينات، عن طريق الموجات الدماغية الخاصة بالتفكير. يقول عن ذلك أن القدرة على التحكم في «التعبير الجيني» عبر قوة الأفكار، طالما كانت حلماً يراود العلماء منذ عقدٍ من الزمن.
اعتقد الفلاسفة فيما سبق أنا أجسامنا منفصلة تماماً عن عقولنا والتي هي ماكينات للتفكير، إلا أن الأبحاث العلمية الحديثة تثبت عكس ذلك. إذ اتضح أن هناك علاقة وثيقة تربط ما بين الجسد والعقل، وأن حالتنا العقلية يمكن لها التأثير بأجسامنا بطريقة قابلة للقياس العلمي.
عن ذلك تشير نتائج دراسة نشرت عام 2014 لمجموعة باحثين كنديين تناولت حالات للمتعافين من السرطان، إلى أن أفكارنا بإمكانها التأثير في مدى النشاط الجيني للخلايا، عن طريق التنشيط أو التثبيط، إذ وجدت الباحثة ليندا كارلسون وزملاؤها أن المتعافين من «سرطان الثدي» ممن نالوا قسطاً من دعم جماعي وخضعوا لتدريبات تأملية تركز على الأفكار الإيجابية وتتجاهل المخاوف المستقبلية وأحداث الماضي، تمكنت أجسامهم من المحافظة على طول «التيلومير» – وهي امتدادات للحمض النووي تغطى أطراف الكروموسومات وتمنعها من التدهور.
عادةً ما تمتاز التيلوميرات الخاصة بمرضى السرطان والسكري وأمراض القلب بطولٍ أقصر، نسبةً للأشخاص الأصحاء. في الدراسة جرى تقسيم حالات المتعافين من سرطان الثدي إلى ثلاثة مجموعات، خضعت الأولى منهم لجلسات التأمل وتمارين اليوجا، والثانية قدم لأفرادها الدعم النفسي الجماعي عبر الإفصاح عن مشاعرهم ومخاوفهم، أما الثالثة فلم يخضع أفرادها سوى لدورة مدتها ست ساعات للتحكم في التوتر والقلق.
أثبتت دراسة كارلسون التأثير الإيجابي لجلسات الدعم النفسي الجماعي وتدريبات التأمل وتمارين اليوجا على طول التيلوميرات الخاصة بالمرضى من المجموعات الأولى والثانية عند تحليل عينات من دمائهم، في حين عانى أفراد المجموعة الثالثة من قصر في طول التيلوميرات.
كانت تلك الدراسة بمثابة تتويجاً للعديد من الدراسات الأخرى التي ناقشت تأثير «الأفكار» على الجينات، وكيف يمكننا من خلال مراقبة نظامنا الغذائي والمواظبة على التمارين الرياضية وتغيير النمط العام للحياة والتفكير أن نجنب أنفسنا التأثيرات الصحية الضارة للكثير من الأمراض التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوراثة، إلى درجة أن بعض هذه الدراسات ربطت ما بين الإجهاد الذهني وزيادة القابلية لالتقاط عدوى فيروسية.
كان العلاج بتطويع أفكارنا بحسب تقرير مجلة «ساينتفيك أميريكان» يستخدم منذ عقود لعلاج الألم ونوبات الصداع ومشاكل النوم وارتفاع ضغط الدم، ويبدو أنه بالنسبة للدراسات الحديثة قد يستخدم في المستقبل في أكثر من ذلك. إذ عن طريق ثلاثة منافذ هم: «العقل والفم والعضلات»، بإمكاننا إرسال إشارات إلى جيناتنا، لتغيير ما لا نرغب فيه.
المصدر: ساسة بوست