هل أنت أفضلُ في حفظِ الحقائقِ أم في تجميع قطعةٍ من المعداتِ باستخدام رسمٍ تخطيطي؟ توضحُ هاتانِ المهمتانِ نوعينِ مختلفينِ من الذكاء، والمعروفينِ باسم الذكاءِ السائلِ (Fluid Intelligence) والذكاء المتبلور (Crystallized Intelligence)، لكن يبقى السؤالُ أيٌّ منهما هو الذكاءُ الحقيقي؟ وهل الذكاءُ شيءٌ يولد مع الإنسان، أم يتم تطويرُه من خلال التعليم؟ هل كونكَ فطناً يعني كونكَ ذكياً؟ وهل الناس أذكياءٌ كما نعتقدُ نحنْ؟ أم أنّ الأمرَ مجردُ تكيفٍ مع البيئةِ وما شابهَ ذلك!
قدم علم النفس العديد من النظريات حول الذكاء على مر السنين، موضحاً كيفية وجود أشكالٍ مختلفةٍ منه، فربما يكون لدى البعض جميعُ تلك الأشكال، و لدى البعض الآخر انخفاضٌ نسبيٌ فيها، أو ربما مزيجٌ مثيرٌ للاهتمام.
في الحقيقة من الناحية النفسية يوجد عدة أنواع رئيسية من الذكاء هي: الذكاء المنطقي الرياضي، والموسيقي واللفظي والبصري والذاتي والشخصي والمكاني والطبيعي.
وعلى الرغم من كوننا نعتقد الآن أننا نمتلك كل تلك الأنواع، إلا أنه نادراً ما تجتمع كلها معاً، إضافةً إلى أن قياسَ الذكاءِ أمرٌ صعبٌ للغاية لِكونه يتعلق بعوامل عدة كالبيئة والجينات.
لذلك لجأ الباحثون إلى تصنيفٍ أعمّ للذكاء معتمدين على نظريات علم النفس السلوكي، كلُ ذلك بدأ على يد الطبيب النفسي (رايموند كاتيل) Raymond Cattell. حيث لاحظ وجود شكلين مختلفين من الذكاء السلوكي، واقترح لأول مرة مفاهيمَ الذكاءِ السائلِ والمتبلورِ رافضاً وجود شكل واحد من أشكال الذكاء ليطوّر فيما بعد مع تلميذه نظرية Cattell-Horn التي تشير إلى أنّ الذكاء يتكون من قدراتٍ مختلفة تتفاعلُ وتعملُ معاً لإنتاجِ الذكاءِ الفردي العام.
لخص (كاتيل) الذكاءَ السلوكي في نظريته المسماة ”نظرية Gf-Gc“، والتي تقيس العمليات النفسية بناءً على اختبارات الذكاء والقدرة، حيث تفترض النظرية أن الذكاء (القدرات الإدراكية البشرية) عبارة عن تكامل دائم بين فئتين من القدرات العقلية على الأقل: القدرات السائلة Gf، والتي تشير إلى قدرة الشخص على فهم العلاقات بين عناصر مجرّدة، واستخدام هذه القدرة لحل المشاكل. والقدرات المتبلورة Gc، التي تشير إلى المعرفة المتراكمة عن طريق التجارب والخبرة العملية.
● لكن ما هو الذكاء السائلُ والمتبلورُ فعلياً؟ وماهي أوجه الاختلافِ بينهما؟
عملياً، الذكاء السائل يتمثل بقدرة الشخص على التفكير بشكل منطقي وحل المشاكل في مواقف مختلفة بغض النظر عن المعرفة المكتسبة سابقاً، حيث يتضمن هذا النوع من الذكاء القدرة على التعرف على أنماط وعلاقات مختلفة لتحديد المشاكل واستنتاج حلول لها. أمّا الذكاء المتبلور، فهو قدرة الشخص على استخدام المعلومات والمهارات والمعارف المتراكمة والخبرات بطريقة من الممكن قياسها عن طريق الاختبارات الموحدة، إذ أنَّ الذكاء المتبلور يمثل المعرفة المتراكمة خلال السنين التي تتجلى في استخدامات الشخص اللغوية والمعرفة الواضحة والذاكرة التقريرية المتجلية بالذكريات عن الأحداث والحقائق.
المناطق الملونة من القشرة الدماغية حيث ترتبط الأنشطة المعرفية بالذكاء السائل.
في عصرنا الرقمي (الذي تميزه كل من الحقائق والأرقام والبيانات) أصبح الذكاء المتبلور ذا قيمة غير متناسبة مع الذكاء السائل. إذ توصلت مجموعة واسعة من الدراسات الجديدة إلى أن المهارات الحركية والتنسيق بين كل من اليد والعينين والتمارين الرياضية والبدنية اليومية مهمة جداً للحفاظ على الذاكرة العاملة ودوام سيرورة المستوى ذاته من الذكاء السائل.
فعلى الرغم من وجود بعض الجدل والنقاش حول أفضل الطرق لتحسين الذكاء السائل حتى الآن، فإن الدراسات تظهر وجود صلة قوية بين المساعي غير الأكاديمية وذكاء السائل المحسّن، إذ كُتبت مجموعة كبيرة من المقالات في علم النفس والتي تدور حول تحسين الوظيفة الإدراكية من خلال ما يسمى بطريقة The Athlete، والتي تعمل على تحديد العادات اليومية، والتي تحسن وظيفة الدماغ في المراحل العمرية المختلفة من خلال كل من النشاط البدني أو العزف على آلة موسيقية وممارسة الفنون، أو تحسين المهارات الحركية وتناسق الحواس، أو ممارسة التأمل والحصول على كمية كافية من النوم ليلاً.
لكن في الـ 23 من ديسمبر من العام 2013 أعلن باحثونَ في University Psychiatric Clinics Basel السويسرية اكتشافهم أنّ البشرَ ذوي (الاستثارة الحركية) الأعلى لديهم ذاكرةُ عملٍ مرتبطةٌ بنوعٍ محسنٍ من الذكاءِ السائل، حيث وجدوا أنّه من خلال قياسِ استثارةِ القشرة المحركة في الدماغ، يمكن استخلاصُ النتائجِ فيما يتعلق بإثارة المناطق القشرية الأخرى. وتمكنوا من إظهار أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بإثارةٍ عالية في القشرة المحركة قد زادوا من أداء الذاكرة العاملة مقارنةً مع ذوي الاستثارة المنخفضة.
تم الحصول على تقديرات للذكاء السائل والمتبلور من خلال جمع الدرجات في اختباراتٍ مخصصةٍ لذلك، حيثُ تم تقسيمُ 297 شخصًا إلى 5 مجموعات تبعاً للأعمار:
14-17 و18- 20 و21- 28 و29-39 و40-61، وأُجريتْ عدة تحليلاتِ عليهم مع اعتماد مجموعةٍ من العوامل كالعمر والتحصيل العلمي. لِتكشفَ لاحقاً أن: متوسطَ مستوى الذكاءِ السائل كان أعلى للفئة الأولى (البالغون الأصغر سناً) بالمقارنة مع البقية، في حين كان متوسط مستوى الذكاء المتبلور أعلى بالنسبة لكبار السن مقارنةً مع باقي الفئات، مما قدّم الدعم لهذه النظرية وبّين علاقتها بالمراحل العمرية. حيث تنبأت النظريةُ بأنّ العلاقةَ بين نوعي الذكاء ستنخفضُ كلما تقدمنا في العمر
مع استمرار فضولنا النهم حول عملية التعلم واستمرار الدراسات في التطور، قد تظهرُ العديد من الأبحاثِ المستقبلية التي توضحُ بالتفصيل أنواع الذكاء، سامحةً لنا بإعادة دمجِ جوانبه المختلفة.
المصدر: موقع دخلك بتعرف