في عام 1916 تنبَّأ أينشتاين في نظريته العامة للنسبية، بوجود ثقوب سوداء ذات جاذبية خارقة تبتلع كل شيء أمامها، وبمرور الوقت ظهرت أدلة واضحة لعلماء الفيزياء الفلكية على وجود هذه الثقوب بالفعل.
حيث لاحظوا العلماء ما يقوم به الثقب الأسود غير المرئي من تأثير على النجوم القريبة منه، واجتذابها لداخل الثقب، لتصدر بعدها إشعاعات وموجات ضخمة يتم رصدها. لكنهم لم يتمكنوا من التقاط صورة لثقب أسود حتى يوم أمس الأربعاء، 10 أبريل 2019، عندما أعلن علماء الفيزياء الفلكية التقاط أول صورة لثقب أسود في التاريخ، والذي يعد من بين أهم الإنجازات العلمية في هذا القرن.
الثقب الأسود الذي التُقطت صورته يقع في مجرة بعيدة تسمى «M87»، يبلغ عرض الثقب 40 مليار كم -أي ثلاثة ملايين مرة بحجم الأرض-وقد أطلق عليه العلماء لقب «الوحش». يبعد الثقب 500 كوادريليون كيلومتر عن الأرض «كوادريليون= مليون ترليون»، وقد صورّه تليسكوب " Event Horizon".
من المعروف علمياً أنه من المستحيل تقنياً تصوير الثقوب السود لأنها ذات جاذبية هائلة، لدرجة أن الضوء لا يستطيع الهروب منها. إننا بلا شك لن نكون قادرين على تصوير صورة واحدة لشيء لا ينبعث منه الضوء أو يعكسه، وذلك لأن الضوء هو الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها رؤية شيء ما. فكيف إذا تمكَّن العلماء من تصوير الثقب الأسود.
لكي تفهم الأمر برمته وبشكل مبسط عليك أن تعرف أولاً ما هو الثقب الأسود؟
أوضح أينشتاين في نظرية النسبية أننا حين نكون بالفضاء فإننا لا نتعامل مع الأبعاد الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع) فقط، وإنما أيضاً نضيف البعد الزماني، لأن الزمن ليس ثابتاً في الفضاء، وعليه لا يمكن أن نهمله. لا يوجد زمن واحد للكون كلّه، والنظام الشمسي ليس النظام الوحيد في الكون، فلا يُمكن أن نفرض التقويم الزمني للنظام الشمسي على الكون كلّه. من هنا نشأت فكرة «الزمكان» وهو محاولة جمع الأبعاد المكانية مع البعد الزماني، ونشأ أيضاً مفهوم «نسيج الزمكان الكوني»، الذي يستخدم لتحديد الأحداث في الفضاء، بخلاف الأبعاد المكانية التي تستخدم لتحديد موقع جسم ما. إن نسيج الزمكان ينحني حول الأجرام السماوية تبعاً لعلاقة تربطه بكثافة الجرم السماوي، وهذا الانحناء ينشأ نتيجة للتجاذب بينهما، لذا فكل كتلة في الفضاء تتسبب في تشويه للزمكان على شكل منحنى حسب ثقلها… كلما كان الجسم أكثر كثافة، زاد تشوه نسيج الكون المعروف باسم الزمكان. إن أي جرم بالفضاء يكون له حجم حَرج إذا وصل له الجرم، تبدأ مواده بالانضغاط تحت تأثير جاذبيته الخاصة، فيحدث انهيار بسبب هذه الجاذبية، وتنتج قوة تضغط النجم أكثر وأكثر وتجعله صغيراً جداً. تزداد كثافة النجم نتيجة تداخل جسيمات ذراته وانعدام الفراغ بين الجزيئات، وتصبح قوّة جاذبيته قوّية إلى درجة تجذب أي جسم يمر بالقرب منه مهما بلغت سرعته، ويزداد كمّ المادة الموجودة فيه. يمكننا القول إن الثقب الأسود هو كمية ضخمة من المادة، معبأة بكثافة كبيرة في منطقة صغيرة، مما يمنحها قوة جذب ثقيلة. وحسب النظرية النسبية العامة لأينشتاين، فإن الجاذبية للثقب الأسود تقوّس الفضاء، وتثنيه فينحرف النسيج الزمكاني تحت تأثير جاذبية الثقب، بمعنى أن خطوط الضوء تتقوس، وتتجه لمركز الثقب الأسود فيمتصها إن أضخم الثقوب السوداء توجد في قلب المجرات، وفي وسط كل مجرة هناك ثقب أسود عظيم أو ثقب فائق الضخامة.
مشروع أفق الحدث " Event Horizon"
استنتج العلماء منذ وقت طويل أن الثقب الأسود محاط بهالة مشرقة من الغاز الأبيض الساخن والبلازما، تمثل منطقة اللاعودة لأي شيء يصل إليها، لأنه لن يتمكن حينها من الهروب من آثار جذب الثقب الأسود. حاول العلماء أن يحددوا بدقة منطقة أفق الحدث ""Event Horizon, والتي تحيط بالمنطقة المظلمة للثقب الأسود، وحين تُلتقط صورة لها سيتمكنون من تحديد مكان الثقب في الصورة، لأن الثقب يكون مظلماً تماماً، بينما الهالة المحيطة به تكون مشرقة جداً. إن الضوء الذي يصدر من منطقة أفق الحدث "Event Horizon" يكون أكثر إشراقاً من جميع مليارات النجوم الأخرى في المجرة مجتمعة، وهذا هو السبب في أنه يمكن رؤيته على مسافة بعيدة من الأرض. يقول بول ماكنمارا (عالم فيزياء فلكية في وكالة الفضاء الأوروبية) لا يرصد التلسكوب الثقب الأسود في حد ذاته، ولكنه يرصد المادة التي حوله، والتي تشكل قرصاً لامعاً من الغازات الساخنة والبلازما البيضاء) من الصعب جداً رصد الثقب من كوكب الأرض، باستخدام تلسكوب واحد، نظراً لصغر حجم كوكب الأرض كثيراً بالنسبة له. زد على ذلك أن هذا الثقب مختبئ خلف سحابات من الغاز والغبار، فكيف يمكن أن يرصده باستخدام تلسكوب واحد فقط؟
كان الحل هو مشروع تلسكوبات "Event Horizon" وهي شبكةٌ مكونة من ثمانية تلسكوبات، موزعة في مناطق متفرقة من العالم، لكنها تجمع البيانات ذاتها. إن دمج هذه التلسكوبات معاً يعطينا تلسكوباً «افتراضياً» في حجم كوكبنا بأكمله. وتلك الشبكة تنتشر في أرجاء الأرض، بما في ذلك القطب الجنوبي وهاواي وأريزونا في الولايات المتحدة وتشيلي وإسبانيا، وتعرف هذه المراصد مجتمعة باسم مرصدEvent Horizon. وحققت تلك التلسكوبات دقة تصوير 15 ميكرو ثانية قوسية، في تصوير الثقب الأسود (M 78) ويشابه هذا رؤية ذبابة على سطح وتعتمد الشبكة على تقنية تسمى الخط الأساسي التداخلي الطويل جداً، وهي تسمح لجميع التلسكوبات باستقبال نفس الإشارة، وقد يختلف وقت وصول هذه الإشارات إلى التلسكوبات قليلاً. ولذا يعمل العلماء على جمع بيانات كل تلسكوب على حدة واستخدام خوارزميات خاصة لترجمة كل البيانات إلى صورة واضحة، ويتعاملون مع شبكة التلسكوبات وكأنها تلسكوب واحد ضخم بحجم الأرض. كانت البيانات الناتجة ضخمة، واحتاج العلماء إلى تخزينها على عدة أقراص صلبة القمر.
المصدر : معرفة الفضاء