هل تساءلت يوماً عمّا يجعل الناس يميلون أحياناً إلى التقديم والتبرع بسخاءٍ بينما يقلُّ عطاؤهم أو ينعدم أحياناً أخرى؟
إن سبب أهميّةِ فهم العمليات التي يقوم بها عقل الإنسان لاتّخاذ القرارات والعوامل المؤثرة الأخرى هو القدرة على التواصل مع الناس بطرقٍ أبسطَ وتقديمِ معلوماتٍ مناسبةٍ وذات تأثيرٍ إيجابيٍّ، وهو ما تحتاج الجمعياتُ الخيريَّة وصناديقُ التبرعاتِ غيرُ الربحيَّةِ إلى معرفته.
على سبيل المثال؛ تكافحُ المجموعات الإنسانية تفشي الإيبولا وهي بالتالي تحتاجُ إلى تبرعاتٍ من البلدان الغنيّة، ولكنَّ بعض تلك المجموعات تعلنُ أن ما تحصِّله من التبرعات أقلُّ بكثيرٍ مما تتوقع على الرغم من التوعية بالإيبولا وأهميَّة مكافحته.
ولدى عالم النفس Paul Slovic من جامعة University of Oregon بعض الإجابات والتفسيرات التي توصَّل إليها من خلال الدراسات التي أجراها، إذ أخبر المتطوعين في إحداها عن فتاةٍ صغيرةٍ تعاني من المجاعة ثم قاسَ مدى استعداد المتطوعين للتبرع لمساعدتها، ثم قدَّم قصة الفتاة الجائعة نفسِها لمجموعةٍ أخرى من المتطوعين ولكنَّه أخبر المجموعة الثانية عن ملايين آخرين ممن يعانون كذلك من المجاعة.
يبدو من المنطقيِّ أن احتمال مساعدة المجموعة الثانية للطفلة أكبر من المجموعة الأولى لأن الإحصائيات المعروضة عليهم تبيِّن خطورة المشكلة بوضوح، لكنَّ Solvic صرَّح:"لقد وجدنا العكس تماماً؛ فالناس الذين عُرِضِت عليهم الإحصائيات إلى جانب المعلومات عن الفتاة قدّموا حوالي نصف المال الذي قدَّمه أولئك الذين أُخبِروا عن الفتاة الصغيرة فقط".
في البداية، اعتقد Slovic أن المسألة كانت مجرد اختلافٍ بين القلب والعقل؛ إذ نتأثر عاطفياً عند سماع قصةِ ضحيةٍ فرديةٍ ما يدفعنا إلى المساعدة، بينما تتعامل عقولنا مع الأرقام عندما ندرك وجودَ ملايين الضحايا الآخرين، ونفقد بالتالي مشاعر التعاطف مع الأشخاص المحتاجين.
وبما أنَّ تأثير الإحصائيات ليس بقوة تأثير قصة الضحية الفردية العاطفي، يبقى السؤال؛ لمَ تُقلِّل معرفة الأعداد من استجابة الناس العاطفية نحو الطفلة المحتاجة؟
وللإجابة على هذه التساؤلات، أجرى Slovic المزيد من الأبحاث التي بيّنت أنها قد تكون مسألة تنافسٍ بين مجموعتين من المشاعر المتضاربة وليست مسألة صراعٍ بين القلب والعقل فحسب!
أراد المتطوعون في دراسة Slovic مساعدة الفتاة الصغيرة لأن ذلك سيجعلهم يشعرون بالرضا ودفء العطاء، أما عند تدخلِ الإحصائيات تنبّهوا إلى وجود الملايين من الأشخاص المتضورين جوعاً وبالتالي انتابهم شعورٌ بأن مساهمتهم لن تشكل فرقاً كبيراً. نلاحظ تشكُّلَ نوعين من المشاعر المتضاربة لدى المتطوعين، لكنَّ خبرة الدماغ في الدمج اللاواعي للمشاعر المختلفة يحول دون إلغاء أيٍّ منها. وفي النهاية، سيقوم المتطوعون بالتبرع ومساعدة الطفلة نتيجةً لمشاعرهم الإيجابية، ولكن شعورهم السلبيَّ الناجم عن إدراكهم لعدم القدرة على مساعدة جميع المتضررين سيقلل من دافعهم للتبرع بسخاءٍ وبالتالي تكون تبرعاتهم الإجمالية أقل.
بعبارة أخرى؛ يقلل الناس من أهمية فعل ما يمكنهم فعله لأنهم يشعرون بالسوء إزاء ما لا يمكنهم فعله.
يقول Slovic "إن الأمر يتعلق حقاً بحس الفعالية، إذا كانت عقولنا تخلق وهماً من عدم الفعالية وطريقة التفكير هذه تثبِّطُ حافز الناس للعطاء، وتعدُّ تلك مشكلةً كبيرة؛ فهل ستكون تبرعاتي ذات قيمة على أية حال؟"
تقترح أبحاث Slovic أن طريقة مقاومة شعور اليأس هذا هو منح الناس انطباعاً بأنَّ بإمكان تدخلهم في الواقع أن يُحدِث فرقاً مهماً، ويعدُّ ذلك تحدياً للمجموعات الخيرية والصحفيين، إذ أن قول الحقيقة ورسم صورة واضحة ومتكاملة عن كل ما يحدث هو وظيفة المراسل، ولكن رسم الصورة الأكبر أحياناً بإمكانه أن يضعف حافز الناس وقدراتهم على فعل ما بوسعهم للمساعدة.
المصدر: الباحثون السوريون