يعود تاريخ الأغذية المتخمرة إلى أكثر من 10000 سنة في منطقة الشرق الأوسط، عندما بدأ الإنسان يتحول من تجميع غذائه عن طريق الصيد إلى حياة منظمة وشبه مستقرة فتحتم عليه تغيير طريقة حصوله على الغذاء والمحافظة عليه صالحاً لمدة طويلة من الزمن مما استدعى إلى استخدامه طرائق مختلفة لتخزينه والمحافظة عليه، ومن بين هذه الطرائق التي استخدمها, التجفيف والتمليح والتخمير.
ومازالت هذه الطرائق مستخدمة بشكل أساسي في حفظ الأغذية إلى يومنا هذا، إلا أن عملية التخمر تعد الأكثر انتشاراً وشيوعاً من بين الطرائق الأخرى المستخدمة في حفظ الأغذية في جميع أنحاء العالم, إذ تعتمد هذه الطريقة على نمو الكائنات الحية الدقيقة في الأغذية المخمرة تحت ظروف ملائمة إذ تقوم هذه الكائنات بإحداث تغيرات مرغوبة في الغذاء نتيجة إفراز أنزيمات خاصة مما يُعطي الغذاء الناتج النكهة المحببة والطعم المقبول والرائحة الزكية والقوام المناسب، ويكون الغذاء غير سام وذو قيمة غذائية عالية.
ويمكن تلخيص بعض الأدوار الهامة للأغذية المتخمرة في حياة الإنسان من الناحية الاقتصادية والغذائية والصحية فيما يلي:
1- إضفاء النكهة والطعم على الغذاء نتيجة عملية التخمر:
تكسب عملية التخمر الغذاء الطعم والنكهة المرغوبة عن طريق إنتاج مركبات هامة نتيجة نشاط الكائنات الحية الدقيقة التي تنمو بالغذاء، إذ تقوم بتحويل بعض المركبات الغذائية الموجودة في الغذاء إلى مركبات الطعم والنكهة مثل الأستيل الألدهيد ودي أسيتيل حيث يُعد هذا المنتج أكثر المركبات المنتجة للنكهة في المنتجات المتخمرة.
2- تحسين صفة القوام أثناء عملية التخمر.
3- التخمر يحفظ الأغذية من الفساد:
تعد عملية حفظ الأغذية من الفساد من أهم فوائد عملية التخمر، إذ تهدف هذه العملية إلى المحافظة على الغذاء من حيث اللون والطعم والرائحة والقوام لمدة طويلة، فعملية التخمر هي بالأساس عملية حيوية تقوم بها الكائنات الحية الدقيقة المرغوبة في ظروف لاهوائية بتحويل المركبات الغذائية كالسكريات إلى أحماض عضوية مختلفة حسب نوع الكائن وهذا يؤدي إلى خفض حموض الوسط وجعله حامضياً ويصبح عندئذ غير ملائم لنمو الكائنات الحية الدقيقة الأخرى غير المرغوبة والمسؤولة عن الفساد بالإضافة إلى الحد من نمو بعض الكائنات الدقيقة الممرضة. وبهذا يمكن حفظ الأغذية لمدة طويلة من الزمن.
تشمل عملية التخمر المستخدمة في حفظ الأغذية على التخمر اللاكتيكي والتخمر الخلي والتخمر الكحولي:
* التخمر اللاكتيكي: هو عبارة عن تحويل السكريات الموجودة في المادة الغذائية إلى حمض لاكتيك بشكل أساسي مع تكوين بعض الأحماض الأخرى كنواتج ثانوية. مثلاً يحفظ الحليب (اللبن) ومشتقاته لمدة طويلة من الزمن ويمكن استخدامه في أوقات مختلفة بعد تحويله إلى لبن رائب (زبادي) بطريقة التخمر اللاكتيكي وكما يحفظ اللبن الرائب لمدة طويلة بعد خلطه مع الحبوب كالقمح فيتكون منتج ذو قيمة غذائية مرتفعة تجمع بين القيمة الغذائية للبن الرائب (زبادي) والقيمة الغذائية للقمح ويُدعى المنتج الغذائي (الكشك). يندرج حفظ الخضروات كالزيتون، والجزر، والخيار وغيرها من الخضروات ضمن حفظ الأغذية وكما يُطلق على هذه العملية في بعض الأحيان حفظ الأغذية بالتخليل (مخللات).
* التخمر الخلي: هو عبارة عن تحويل الكحول الذي يتكون نتيجة عملية التخمر اللاهوائي. وهذا النوع من التخمر يتم تحت ظروف هوائية من قبل كائنات حية دقيقة متخصصه. تعمل على تحويل الكحول المتكون من عملية التخمر اللاهوائي إلى حمض الخل وهو المكون الأساس بين المركبات الأخرى المتكونة. ويُعد هذا الحمض عاملاً مهم في حفظ الأغذية عن طريق إضافته بتراكيز مناسبة إلى المادة الغذائية التي تخضع لعملية التخليل أو يضاف كبهارات إلى المواد الغذائية في كثير من بلاد العالم.
4- الإغناء الحيوي للأغذية المتخمرة:
ترتفع نسبة البروتين ارتفاعاً ملحوظاً في الأغذية المتخمرة مُقارنةً بالإغذية غير المتخمرة وخاصة بالنسبة للأغذية النشوية ويمكن أن تصل هذة الزيادة في بعض الحالات إلى 16% على أساس الوزن الجاف للمادة الغذائية المتخمرة، بالإضافة إلى زيادة محتوى الأحماض الأمينية الحرة كالليسين والأحماض الأمينية الكبريتية خاصة في الأغذية البقولية المتخمرة.
كما أن الأغذية المتخمرة تزيد من نسبة بعض أنواع الفيتامينات مقارنةً بالأغذية غير المتخمرة. فقد وجد أن استهلاك الأرز المقشور في بعض البلدان يؤدي إلى احتمال الإصابة ببعض الأمراض لأن محتوى هذا النوع من الغذاء من فيتامين B1 منخفض جداً. إلا أن هذه الشعوب عندما تتغذى على الأرز المقشور المتخمر لا تظهر عليهم أعراض مرضية لأن الكائنات الحية الدقيقة المسؤولة عن التخمر تزيد من محتوى هذا النوع من الغذاء من فيتامين الثيامين ليعود إلى مستواه في الأرز غير المقشور. كما أن الكائنات الحية الدقيقة المسؤولة عن عملية التخمر هذه تزيد من محتوى B2 (الريبوفلافين) في بعض الأغذية وكذلك فيتامين النياسين، ويمكن أن تصل في بعض الأحيان الزيادة إلى 7 أضعاف محتوى B2 في الأغذية المتخمرة مقارنةً بالأغذية غير المتخمرة.
5- التخمر يخفض نسبة السموم في المواد الخام التي تخضع للتخمر:
تعد السموم الفطرية mycotoxin” التي تتشكل على المواد الخام من حبوب وغيرها وخاصة عندما تخزن هذه المواد في ظروف تسمح بنمو الفطريات التي تشكل مثل هذه السموم أو السموم التي لها آثار ضارة في صحة الإنسان فالبعض منها له درجة عالية من السمية والبعض الآخر يسبب أمراضاً مزمنة للإنسان عند تناولها، كما أنها تسبب أمراضاً كالفشل الكلوي وبعض المشاكل في الكبد وغيرها، إن الإجراءات والتدابير المتبعة في عملية التخمر كالنقع والطبخ وغيرها تؤدي إلى تكسير وتحطيم بعض السموم.
6- التقليل من وقت الطهي وتوفير الطاقة نتيجة عملية التخمر:
من المعلوم أن بعض الأغذية المتخمرة تستهلك بدون طهي كالألبان ومشتقاتها وكذلك الخضروات المخللة، وكما أن بعضها الآخر يتطلب قليلاً من الحرارة في تحضيرها وإعدادها للاستهلاك مما يؤدي إلى التقليل من الوقت والطاقه اللازمة لعملية الطهي. إذ مثلاً يلزم لطهي فول الصويا 5-6 ساعات بينما لا يحتاج إلا 5-10 دقائق من الوقت عندما يكون متخمراً.
7- تسهم عملية التخمر في تغيير تركيب العناصر في المواد الخام:
يطرأ على المواد الغذائية التي تصنع منه الغذاء المتخمر تغييرات كثيرة سواءً في تركيب العناصر الغذائية الموجودة في المواد الأولية أو بوجود عناصر غذائية هامة لم تكن موجوة في المواد الأولية قبل التخمر، وهذه التغييرات التي تحدث للمادة الأولية لن يؤثر في محتواها من المركبات الكيميائية الموجودة بها قبل التخمر.
وأوضح مثال شائع ما يحدث للحليب بعد التخمر، حيث يلاحظ أن بعض مكونات الحليب تزداد نسبتها كحمض اللاكتيك وبعض السكريات الاخرى كالجلوكوز والجلاكتوز نتيجة تحويل سكر اللاكتوز الموجود في الحليب إلى حمض لاكتيك ممايؤدي إلى زيادة نسبة حمض اللاكتيك وكذلك سكر الجلوكوز والجلاكتوز بالإضافة إلى زيادة نسبة بعض السكريات الأخرى التي تتحول بدورها إلى أحماض عضوية بفعل الكائنات الحية الدقيقة التي تقوم بعملية التخمر، ونتيجة لذلك تنخفض نسبة سكر اللاكتوز بمقدار يتراوح بين 3% و5% من قيمته الأصلية الموجودة في الحليب قبل التخمر وهذا له فوائد عديدة خاصة للأشخاص الذين يعانون من مرض عدم تحمل اللاكتوز إذ أن وجود نسبة صغيرة من سكر اللاكتوز يعد مفيداً جداً للمستهلك وعلى العكس فإن وجوده بنسبه كبيرة يسبب تهيجاً للغشاء المخاطي للأمعاء، الأمر الذي يؤدي إلى تقلصات في منطقة البطن وحدوث اسهال شديد.
كما تزداد نسبة الببتيدات والأحماض الأمينية الحرة أثناء عملية التخمر نتيجة تحلل البروتين الموجود في الحليب التي تقوم بها الكائنات الحية الدقيقة وهذا يجعل المنتجات اللبنية المتخمرة أسهل هضماً داخل المعدة والأمعاء. وكما تعلب دوراً مهماً في عملية تفريغ المعدة تكون أسرع عند تناول الألبان المتخمرة مقارنة بالألبان غير المتخمرة. ومن بين المكونات التي تزداد نسبتها في الألبان المتخمرة يلاحظ الأحماض الدهنية الحرة، نتيجة تحلل الدهن الموجود في الحليب وهذا يؤدي إلى تحسين درجة هضم الألبان المتخمرة وظهور مركبات جديدة تعطي النكهة والطعم والرائحة التي لم تكن موجودة في الحليب قبل عملية التخمر، كما تظهر أحماضاً عضوية كحمض الخل وحمض البروبيوتيك والبيوتيرك وغيرها.
وأخيراً يلاحظ تغيير كبير في معدل الفيتامينات فبعضها تنخفض نسبته نتيجة استهلاك الكائنات الحية الدقيقة لها أثناء نموها. وبينما يلاحظ زيادة نسبة لبعضها كحمض الفوليك والنياسين والبيوتين وغيرها.
المصدر: الباحثون السوريون