يبدو أن دماغك مرنٌ أكثر مما تتوقع. إذ طالما اعتقد الباحثون أن الدماغ يعتمد في عمرٍ معين طريقة نشاط معينة، من دون أن يغيّرَها، إلا عند الوصول إلى مرحلة الشيخوخة. لكن كلية علم النفس المهني في جامعة إلينت الدَّولية "Alliant" في مدينة سان دييغو الأميركية لفتت إلى أن العلم يبرهن أكثر فأكثر مدى مرونة وتَغيُّر أدمغتنا.
المرونة العصبية أو اللدونة العصبية "Neuroplasticity/Brain Plasticity"
تسمى أيضاً مطاوعة الدماغ, تظهر اللدونة العصبية في مستويات مختلفة، بدءاً من التغيرات الخلوية الناجمة عن التعلم وصولاً إلى تغيرات شاملة في القشرة المخية استجابة لإصابة ما. يبرز دور اللدونة العصبية في التنمية الصحية والتعلم والذاكرة وكذلك التعافي بعد إصابة دماغية.
خلال القرن العشرين كانت آراء معظم علماء العصبية متفقة بأن الدماغ يبقى ثابتاً بعد انتهاء تطور الإنسان (أو ما يسمونه انتهاء الفترة الحرجة critical period، والمقصود بها المرحلة التي إذا اجتازها الكائن ولم يتطور خلالها بالشكل الكافي يصعب بعدها أن يصلح الخلل وتكون هذه المرحلة في بداية الطفولة)[3]. دراسة اللدونة العصبية سمحت لنا بالتخلص من الفرضية السابقة التي تقول: أن الدماغ عضو فسيولوجي ساكن وأتاحت لنا استكشاف الطرق التي يتغير فيها الدماغ خلال حياتنا بالرجوع إلى العديد من النتائج التي تثبت لدونة الدماغ حتى في مرحلة البلوغ.
من وجهة نظر علم الأعصاب، يُولد كل البشر مبتسرين، ويعني هذا أن الدماغ يحتاج وقتاً طويلاً ليتطوّر وينمو. عندما نولد، يزن دماغنا نحو 350 غراماً فقط، وبالرغم من أن النمو العصبي محدود نوعاً ما بعد ذلك الوقت، إلا أن الهدف الرئيس للدماغ هو إنشاء صلات بين عصبونات وأجزاء أخرى، في طريقه للوصول إلى وزن 1400 غرام، وهذا يحدث في أواخر سن المراهقة. مفهوم تماماً أننا نختبر عشرين سنة تقريباً من النمو، وتكون فائدة الفص الجبهي الأكبر في المراحل النهائية من التطوّر. قد يفسّر هذا سبب تعرّض كثير من المراهقين لمشكلات في اتخاذ قرارات صحيحة؛ لأن الجزء الجبهي يشترك بفاعلية في عمليات اتخاذ قراراتنا، من ثم تكون أدمغتهم لا تزال تتطوّر.
عند تنحية قضية النمو في الحجم جانباً، يصبح أحد الأسئلة الرئيسة التي يحاول الباحثون إيجاد جواب لها: هل يستطيع دماغ متقدّم بالعمر إنتاج عصبونات جديدة؟ وإذا حدث هذا، فما مدى فاعلية الدماغ في هذه العملية؟ الجواب السريع هو، نعم، تستطيع أدمغة متقدّمة بالعمر إنتاج عصبونات جديدة (تخلّق نسيج عصبي). يبدو أن فاعلية هذا النمو تعتمد على عدد من العوامل، التي سأناقشها لاحقاً.
فهم طريقة حدوث تخلّق النسيج العصبي والعملية البيولوجية التي تجري نتيجة ذلك مثيرٌ جداً للاهتمام. على كل حال، بدلاً من ملء عددٍ من الصفحات بتفاصيل بيولوجية أساسية كثيرة، سأخبرك ببساطة أن تخلّق النسيج العصبي لدى راشدين يجري عبر إنتاج أنواع خلية محدّدة يبدو أنها تنجذب إلى منطقة معينة من الدماغ في جزء قرن آمون، الذي يشترك في عمليات ذاكرة، وينبغي أن تنمو هذه الخلايا الجديدة وتنضج لتصبح فاعلة في المساعدة في تخلّق النسيج العصبي. حتى حديثاً، في العقدين الماضيين أو نحو ذلك، كان الإجماع العام أن الراشدين لا ينتجون خلايا جديدة، ويُظنُّ أنه بعد انتهاء النمو (في العشرينيات من عمرنا) تكون كل العصبونات التي سنحظى بها موجودة، ونواجه بعد ذلك تدهوراً ثابتاً محتّماً. على كل حال، نعرف الآن أن دماغ الراشد قادر على إنتاج نسيج عصبي وأن النمو في مناطق الاتصال يستمر، ويحدث بالنسبة إلى عصبونات أخرى عبر بنى صغيرة تشبه الفروع تدعى النتوءات الشوكية. عند التفكير ملياً في هذا التغيير، أُطلقت مبادرات جديدة لدراسة طريقة إحراز هذا النمو في عمر متقدّم.
اقترح باحثون أن هذه الخلايا المولودة حديثاً يمكن أن تساعد في التعلّم والذاكرة، وكذلك فقد أظهرت دراسات على حيوانات أنه عندما توضع فئران في “بيئات خصبة” (مثال: مهمات تحفيزية وصعبة)، تُظهر قدرة أفضل في إنجاز مهمات متنوّعة لاحقاً في حياتها، لكن خاصة تلك المهمات المتعلّقة ببيئات قد وُضعت فيها في المراحل الأولى من نموها العصبي. هذا مثير للاهتمام؛ لأنه يشير إلى إمكانية استعادة المرء لوظائف بنحو أفضل كثيراً إن كان قد اختبرها سابقاً في أثناء مرحلة النمو، وقد تكون بيئات خصبة حين ينمو المرء مهمة جداً في إنتاج عصبونات في البلوغ. مثلاً، يتفاجأ كثير من الناس اختبروا نوعاً محدداً من المهمات في أثناء طفولتهم حين يكتشفون أنهم لا يزالون ينجزون هذا النوع من المهمات بعد سنوات، حتى إذا لم يحاولوا أداءها منذ طفولتهم. لا تعدُّ البيئات الخصبة مهمة فقط حين يكبر المرء، فقد أشار بحث على فئران إلى أنها تلعب دوراً في تعزيز إنتاج عصبونات جديدة في حيوانات أكبر سناً. من ثم، ينبغي أن يكافح المرء لضمان أن تكون البيئات غنية بنشاطات تتحدّى الدماغ وتحفّزه باستمرار، وأيضاً سيساعد الاشتراك في هذا السلوك في المراحل المتأخرة من حياتك في ضمان نجاة عصبونات مُنتجة حديثاً ويساعدك في تطوير إمكانياتك.
بالرغم من إمكانية إجراء معالجة تفضيلية لعصبونات مرّت بمرحلة تطوّر “خصبة”، إلا أن الاشتراك في مهمات جديدة مفيد أيضاً لصحة هذه الخلايا. تقترح نماذج نظرية أن عصبونات جديدة تحتاج وقتاً للنمو وإنشاء صلات فاعلة مع عصبونات أخرى، وتقفز عبارة “التكرار مفيد” إلى الذهن؛ لأن هذا، على مستوى خلوي، قد يكون ما يجري في تطوّر عصبونات جديدة. فكّر في شخص يفكّر في الانضمام إلى فريق رياضي، فيقوم “الفتى الجديد” برفع لياقته ويحاول إيجاد مكان يعمل فيه بأفضل ما يمكن، وإذا لم تكن لياقته جيدة، فستمضي العملية قدماً من دونه. على كل حال، إذا كانت اللياقة جيدة، يتقبّل الفريق ذلك الفرد بنحو أفضل كثيراً.
مهم أيضاً أن نلاحظ أنه يمكن عدُّ تخلّق النسيج العصبي عملية تُستخدم فيها هذه العصبونات الجديدة للتعويض عن عصبونات تعاني خللاً وظيفياً. من ثم، تكون عملية الاستبدال أساسية لاستمرار الأداء. إحدى النتائج المثيرة للاهتمام هي أن تخلّق النسيج العصبي الذي يحدث في بنى الدماغ (مثال: المادة السوداء) يتأثر، مثلاً، بداء باركنسون، واقترحت تقارير أن عصبونات في هذه المنطقة تُستبدل، بالرغم من أن هذا الاستبدال يحدث بمعدّل أبطأ من تقدّم المرض. الدماغ يعمل بجهد واضح في محاولة للدفاع عن نفسه وضمان وظيفية ناجحة، حتى بمواجهة حالة تنكّس عصبي مثل باركنسون.
بالرغم من أن أبحاثاً أظهرت أن تخّلق نسيج عصبي لدى راشدين يحدث فعلاً، وأن تغييرات سلوكية في الذاكرة والتعلّم ممكنة، إلا أن أياً من هذه الدراسات ليست حاسمة تماماً، وبعضٌ مما يُقدّم يستند على نماذج نظرية فقط. على كل حال، يدل هذا ببساطة على ضرورة إجراء مزيد من الأبحاث لفهم طريقة إيجاد تخلّق نسيج عصبي فاعل ومكافحة أمراض في أفراد متقدّمين بالعمر.
يتغير الدماغ جرّاء التجارب في العلاقات مع الغير
طُوّرَ مجالٌ علمي بحدّ ذاته، عُرِفَ باسم "علم الأعصاب بين الأشخاص"، يبحث ويسعى إلى فهم كيفية تغيُّر أدمغتنا وِفقاً لتجاربنا وعلاقاتنا مع الغير. ويعتبر هذا العلم أننا اجتماعيون أكثر مما نُيقِن، وأن أدمغتنا تنمو وتتغير فعلاً مع دخولنا مرحلة البلوغ، مرتكزةً على العلاقات التي ننسجها مع الآخرين.
وذكرت الكلية نفسُها أن إحدى الدراسات برهنت كيف تؤدي تقويةُ العلاقات بين المرتبطين إلى التغيير الفعلي لطريقة تفاعل دماغ الشريك مع الخوف والألم.
يتغير الدماغ جرّاء التجارب في الحياة
تتكيف الأدمغة أيضاً، وتتغير وتنمو، مرتكزةً على المعرفة الجديدة المكتسَبة. طبعاً، هي حساسة وسريعة التأثر في مرحلة الطفولة، ولكن حتى في سنوات مرحلة البلوغ، يُغيّرها التعلُّم والتجارب الجديدة.
أشارت كلية علم النفس المهني إلى دراسة شهيرة أخرى، أُجريَت على سائقي الأجرة في العاصمة الإنكليزية لندن. إذ شكّلت هذه الدراسة مثالاً جيّداً عن كيفية تغيُّر الدماغ البشري مع التجربة. طُلِبَ من السائقين أن يخضعوا لامتحان دقيق عن مدى معرفتهم بالطرقات العامة والشوارع والأزقة و"وصلات" الطريق الصغيرة في المدينة. شكّل السائقون، إذاً، عيّنةً ممتازة للباحثين كي يختبروا كيف يؤثر حفظُهم خريطةَ المدينة في أدمغتهم.
وجد الباحثون أن سائقي الأجرة الذين نجحوا في الامتحان تمتعوا طبعاً بكمياتٍ أكبر من المادة الرمادية في ارتفاع "قرن آمون" في أدمغتهم، مقارنةً بالذين رسبوا الامتحان. "قرن آمون" هو ارتفاعٌ مطوّل دائري في القرن الصدغي للبطَين الجانبي للدماغ، يُسَمّى أيضاً "حصان البحر" نظراً لشبهه بالسمكة نفسها، ويُعنى بالذاكرة القصيرة والطويلة الأمد، وبالتعلم، وبالإدراك المكاني.
فحتى كبالغين، عندما نكتسب مهاراتٍ جديدة، يمكن أدمغتنا أن تتغير هيكلياً، كما برهنت الدراسة مع سائقي الأجرة.
يتغير الدماغ ليعوّض عن الأضرار
تتبين المرونة العصبية أيضاً عندما يتلف قسمٌ من الدماغ بطريقةٍ ما، ويعيد الدماغ تنظيم نفسه ليعوّض عن فقدان وظائف معينة. إذ يبدأ الدماغ بالنشاط أحياناً، بعيداً من القسم التالف كي يعوّض عن الضرر، كما أشارت الكلية نقلاً عن دراسةٍ أخرى.
هناك الكثير من الأمور التي لا يعرفها الباحثون عن "روعة" نشاط الدماغ. ولكن الأكيد هو أن دماغك يتمتع بمرونة أكثر مما تعتقد.
لمزيد من المعلومات يمكن قراءة كتاب الدكتور"نورمان دويدج" بهذا الشأن، الدماغ وكيف يُطور بُنيته وأداءه "The Brain That Changes Itself" من هنــــــــــــا.