على مدار التاريخ الطبي، لم تكفّ الدماغ البشري عن إدهاشنا بقدراته المذهلة والغريبة. من أكثر هذه الظواهر إثارة وغموضاً ما يُعرف بـ متلازمة العبقري المكتسبة (Acquired Savant Syndrome). وهي حالة نادرة يظهر فيها لدى الشخص قدرات استثنائية في مجالات كالفن أو الرياضيات أو الذاكرة، إثر إصابة دماغية أو مرض عصبي، رغم عدم امتلاكه لهذه القدرات من قبل.
ما هي متلازمة العبقري المكتسبة؟
متلازمة العبقري المكتسبة هي حالة عصبية استثنائية تتحول فيها الإصابة أو التلف في الدماغ إلى محفّز لإطلاق قدرات كامنة وغير متوقعة. المصابون بها قد يكتسبون مهارات خارقة أو مواهب فنية غير معتادة، مثل القدرة على الرسم بدقة مذهلة، أو عزف الموسيقى بإتقان كبير، أو حل مسائل رياضية معقدة ذهنياً بسرعة فائقة.
على عكس متلازمة سافانت التقليدية (التي تظهر غالباً مع التوحد منذ الطفولة)، فإن المتلازمة المكتسبة تحدث لدى أشخاص لم تكن لديهم سابقاً أي مواهب خارقة أو قدرات خاصة.
الآليات العصبية المحتملة
لا تزال آلية هذه الظاهرة غير مفهومة تماماً، لكنها تثير فضول العلماء. هناك فرضيات تقول إن التلف في مناطق معينة من الدماغ (كالنصف الأيسر أو الفص الجبهي) قد يحرر أو يطلق نشاطاً في مناطق أخرى (غالباً في النصف الأيمن) مسؤولة عن المهارات الفنية أو الحسابية.
يُعتقد أن الدماغ يمتلك قدرات "صامتة" أو كامنة لدى الجميع، لكن الإصابة قد تزيل الكوابح التي تمنعنا عادة من الوصول إليها.
القدرات التي قد تظهر
القدرات المُكتسبة في هذه المتلازمة تكون عادة مركّزة في مجال واحد أو اثنين، ومنها:
-
القدرة على الرسم أو النحت بتفاصيل دقيقة واقعية.
-
عزف الموسيقى دون تدريب أو قراءة النوتة.
-
الحسابات العقلية المعقدة بسرعة خارقة.
-
الذاكرة الفوتوغرافية أو الذاكرة التقويمية (تذكّر تواريخ وأيام بدقة).
أمثلة واقعية مذهلة
-
جيسون بادجيت: شاب أميركي تعرض لاعتداء عنيف أدى إلى إصابة دماغية، وأصبح بعد ذلك يرى الأشكال الهندسية في كل مكان ويستطيع رسمها بدقة مذهلة، مع قدرات رياضية غير معتادة.
-
ألفونسو كليمنز: أصيب في دماغه طفلاً، لكنه أظهر قدرة استثنائية على نحت حيوانات من الطين بدقة خارقة، رغم إعاقته الذهنية العامة.
-
حالات موثقة أخرى أظهرت أن السكتات الدماغية أو الحوادث قد تطلق قدرات موسيقية أو فنية غير مسبوقة.
محاولات البحث والاستنساخ
يحاول العلماء فهم هذه الظاهرة لدراسة إمكانيات الدماغ الكامنة. بعض التجارب استخدمت التحفيز المغناطيسي للدماغ لتعطيل مناطق معينة مؤقتاً، بهدف إطلاق قدرات مشابهة لدى المتطوعين. النتائج الأولية مثيرة، لكنها ما زالت في مراحل البحث، ولا تُعد وسيلة علاجية أو تدريبية مؤكدة.
خاتمة
تُبرز متلازمة العبقري المكتسبة جانباً مدهشاً من الدماغ البشري: المرونة والقدرة على التعويض والإبداع بعد الإصابة. ورغم ندرتها، فإنها تطرح أسئلة فلسفية وعلمية عميقة: هل يمتلك كل إنسان قدرات خارقة كامنة؟ وهل يمكن تسخير هذه الإمكانات دون إصابة أو مرض؟
إن دراسة هذه المتلازمة لا تسلط الضوء فقط على الإمكانيات العصبية، بل تلهمنا أيضاً في سعينا الدائم لفهم الذات البشرية وحدودها المدهشة