عرف الاقتصاديون التضخم على أنه ظاهرة اقتصادية تتوضح بارتفاع الأسعار الناجم عن اختلال التوازن بين العرض المتاح من السلع والخدمات والطلب الفعلي عليها. وهذا يعني وجود فجوة بين العرض المتاح والمحدود من السلع والخدمات والطلب الفعلي أي المقترن بالقدرة على الشراء والذي يزيد عن العرض المتاح..
و توضح القوانين الاقتصادية أن زيادة الطلب على السلع والخدمات عن العرض تؤدي إلى زيادة الأسعار، التي تعد المؤشر التقليدي على حدوث ظاهرة التضخم في أي اقتصاد.
وأحدث جون مينارد كينز، الاقتصادي الإنكليزي المعروف نقلة نوعية كبيرة في تفسير التضخم وتحديد كيفية حدوثه. فالتضخم وفقاً لكينز هو زيادة الطلب الفعلي عن العرض المتاح من السلع والخدمات، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. فالتضخم مرتبط بحدوث تطورات في عدد من المتغيرات الاقتصادية أهمها: العرض المتاح .والطلب الفعلي.وكمية النقود المعروضة للتداول.و أسعار الفائدة.إضافة الى مستوى التشغيل في الجهاز الإنتاجي.
وهذا يعني أن التضخم يظهر عندما تظهر زيادة إضافية في الطلب الفعال لا يواكبها زيادة في إنتاج السلع والخدمات.
وعلية فإن أي زيادة في الطلب الفعال تعبر عن نفسها بحدوث زيادة في الأسعار . فإذا ما ازدادت كمية النقود المعروضة للتداول تنخفض أسعار الفائدة ويزداد حجم السيولة النقدية، التي يحتفظ بها الأشخاص نتيجة لانخفاض سعر الفائدة. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الميل للاستهلاك، وانخفاض الميل للادخار. ومع انخفاض أسعار الفائدة وزيادة الميل للاستهلاك فإن المشروعات القائمة ترفع مستويات التشغيل، وتظهر استثمارات جديدة عندما يقوم المستحدثون بالحصول على قروض بأسعار فائدة منخفضة لتمويل مشروعات إنتاجية جديدة بسبب الميل للاستهلاك.
وتوضح النظرية الكينزية أن الزيادة في الطلب الفعلي نتيجة زيادة كمية النقود وانخفاض أسعار الفائدة تسبق الزيادة في الإنتاج نتيجة الاستثمارات الجديدة، وهذا هو السبب الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار وحدوث التضخم .
وأوضح كينز أن العلاقة بين التضخم والبطالة هي علاقة عكسية، فإذا ارتفع معدل التضخم انخفض معدل البطالة والعكس صحيح، ذلك لأن ارتفاع التضخم يرتبط بزيادة الطلب الفعلي لما يتجاوز العرض المتحقق من السلع والخدمات في التشغيل الكامل للجهاز الإنتاجي، ومعروف أن حالة التشغيل الكامل تعني وصول معدل البطالة إلى حده الأدنى .
وركزت جميع النظريات التي ناقشت موضوع التضخم على دراسة وتحليل العملية الديناميكية لتكوين الأسعار، والبحث عن العوامل والمسببات التي تؤدي إلى عدم استقرارها والآثار والنتائج المترتبة على ذلك.
أسباب التضخم
ويمكن تحديد أهم الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وحدوث التضخم وفقاً لما يلي:
الزيادة في الطلب على السلع والخدمات من جانب الحكومة أو من جانب رجال الأعمال، أو القطاع العائلي. والنتيجة هي ضغط الطلب لا يقابله زيادة في إنتاج السلع والخدمات، فيحدث اختلال في التوازن بين العرض والطلب والفعال، فترتفع الأسعار ويحدث التضخم.
وحتى في حال عدم حدوث زيادة في الطلب الفعال، فمن المحتمل أن ترتفع الأسعار أيضاً. وهذا قد يحدث عندما ترتفع التكاليف وبخاصة إذا ارتفعت الأجور عندما تزداد قدرة العمال على المساومة في تحديد أجور أعلى. والمطالبة بزيادة الأجور يمكن تبريرها إما بزيادة تكاليف المعيشة أو بارتفاع الإنتاجية. وعندما يستجيب أرباب العمل لمطالب العمال في رفع الأجور فهم يأملون أن يعوضوا ذلك برفع الأسعار. وهذا يؤدي إلى حدوث التضخم.
أنواع التضخم
وهناك أنواع متعددة من التضخم يمكن التمييز بينها من خلال ظروف أو أسباب حدوثها وزمان ومكان حدوثها. وقد ذكرت الأدبيات الاقتصادية عدة أنواع للتضخم منها: التضخم العادي أو الزاحف والتضخم المكبوت والتضخم الجامح .إضافة إلى التضخم المتسلل والتضخم المستورد والتضخم الركودي.
التضخم العادي
وهذا التضخم ناجم عن تزايد الطلب الفعال على السلع والخدمات ويحدث نتيجة الزيادة الطبيعية للسكان وتطور احتياجاتهم، دون أن يواكب ذلك زيادة في عرض السلع والخدمات لتلبية هذه الاحتياجات.و تمويل قسم من الإنفاق العام عن طريق إصدار النقود بدون غطاء من الإنتاج أو المعادن الثمينة. وتأخر استجابة الجهاز الإنتاجي للزيادة في الطلب الفعال .
ويتسم هذا النوع من التضخم بحدوث ارتفاع بطيء ولكنه مستمر في مستوى الأسعار.
التضخم المكبوت
والتضخم المقيد أو المكبوت عبارة عن حالة يظل فيه المستوى العام للأسعار منخفضاً بوسيلة أو بأخرى، لكن هذا الثبات يكون على حساب تراكم قوي يمكن أن يسبب ارتفاعا انفجاريا في الأسعار في مرحلة لاحقة . ويسود هذا النوع من التضخم في البلدان ذات الاقتصاد المخطط والتي تهيمن الدولة فيها على الاقتصاد.
ويحدث التضخم المكبوت في حال زيادة الطلب الفعال عن العرض المتاح من السلع والخدمات وبخاصة عندما تصدر الدولة نقوداً وتضعها في التداول دون غطاء من الإنتاج أو من الذهب أو من العملات الأجنبية "القطع النادرة" . والمنطقي في هذه الحالة أن ترتفع الأسعار، لكن الدولة المسيطرة على الاقتصاد تلجأ إلى التحديد الإجباري لأسعار السلع والخدمات بأقل من السعر الذي يمكن أن يسود في حالة تفاعل العرض والطلب بشكل حر دون تدخل من الدولة ، ولمواجهة زيادة الطلب تقوم الدولة بتحديد حصص استهلاكية مخصصات لكل فرد من السلع والخدمات. وهذا ما يسمى بالتضخم المكبوت.
وعندما تلغي الدولة قرار التسعير الإجباري للسلع والخدمات، فإن القوة الشرائية المتاحة للأفراد تتحول إلى طلب فعال محموم يؤدي إلى حدوث تضخم كبير وارتفاع انفجاري للأسعار.
التضخم الجامح
والتضخم الجامح حالة اقتصادية تدمر فيها القوة الشرائية للوحدة النقدية، وقد تصل الأسعار في ارتفاعها إلى أرقام فلكية، وتزداد سرعة دوران النقود، وتعطل وظيفة النقود كمخزن للقيمة، وتستخدم كوسيط للتبادل فقط. ذلك لأن النقود لم يعد لها قيمة تقريباً. وينشأ التضخم الجامح كحالة خاصة شديدة التطرف عندما تؤدي الزيادة العادية في الطلب الفعال وبخاصة في مرحلة الانتعاش أو في المراحل الانتقالية من نظام اقتصادي إلى نظام آخر، أو في فترات الحرب وما يعقبها.
وتعد السلطات النقدية والمالية في الدولة المسؤول الأول عن حدوث وتطور التضخم الجامح والمدمر، لأنها تستسلم لدورة التسارع في التضخم حتى يصل التضخم الجامح ومن خلال قيامها بإصدار النقود بلا غطاء من الإنتاج أو الذهب، ولأنها هي التي تملك سلطة اتخاذ القرار، وتملك استخدام الأدوات المالية والنقدية الكفيلة بمحاربة التضخم والسيطرة عليه.
آثار التضخم
وتندرج الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتضخم تحت:
تعرض أصحاب الدخل المحدود لأكثر الآثار السلبية للتضخم، وذلك بسبب انخفاض الدخل الحقيقي الذي يحصلون عليه نظراً لارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية للوحدة النقدية. تسارع العملية التضخمية (السباق بين الأسعار والأجور).
ويؤدي ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الاستهلاك الحقيقي لذوي الدخل المحدود وبخاصة العمال الذين يحصلون على دخولهم من العمل (الأجور). لذلك سيحاول العمال زيادة أجورهم النقدية لتعويض الارتفاع في الأسعار وزيادة تكاليف المعيشة، وإذا حصل العمال على زيادة الأجور سيؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف المتغيرة للإنتاج، ولذلك سيحاول المستحدث أو المنظم زيادة الأسعار من جديد.
وهذا يؤدي إلى زيادة التضخم فزيادة الأسعار تؤدي إلى زيادة تكاليف المعيشة أكثر، فيطالب العمال بأجور أعلى، وبهذه الطريقة يحدث السباق بين الأجور والأسعار وتكتسب عملية الارتفاع التضخمي في الأسعار قوة دافعة. وإذا استمر ذلك فإنه سيؤدي إلى حدوث التضخم الجامح، الذي يمثل سباقا محموما بين الأجور والأسعار.
وقسم كينز المجتمع إلى ثلاث طبقات رئيسة هي: فئة الرأسماليين المستثمرين، وفئة المنظمين أو المستحدثين،وفئة العمال كاسبي الأجور والمرتبات.
وعندما يتم توضيح آثار التضخم والتغير في الأسعار، يمكن دراسة كيف تؤثر التغيرات في الأسعار أو في قيمة النقود على الفئات الثلاث المذكورة أعلاه. فإذا ارتفع مستوى الأسعار، يكون المتضرر من جراء ذلك فئة المستثمرين وأصحاب الدخول الثابتة، لأنهم سوف يشترون بدخلهم سلعاً وخدمات أقل من ذي قبل. ويستفيد من ارتفاع مستوى الأسعار فئة رجال الأعمال والمنظمين وذلك بسبب ارتفاع أسعار منتجاتهم وثبات تكاليف إنتاجهم أو تخلفها في الارتفاع. لأن الأجور والمرتبات مثلاً تكون محددة باتفاقيات لا يمكن أن تعدل فوراً، وكذلك مصاريف الإيجار والفائدة تظل أيضاً كما هي.
أما الفئة التي تحصل على دخلها لقاء عملها الأجور والمرتبات فإنها تخسر عندما ترتفع الأسعار. لأن أجورهم ومرتباتهم لا ترتفع بالتناظر مع الأسعار، مما يؤدي إلى انخفاض أجورهم الحقيقية.
ويوضح أثر التغير في الأسعار على المدينين والدائنين وفقاً لما يلي: عندما ترتفع الأسعار، يستفيد من ذلك المدينون لأن الديون تسدد عن طريق بيع السلع والخدمات. وفي حال كون المدين منتجاً، فإنه يتنازل عن كمية أقل من إنتاجه لتسديد مبلغ معين من الدين. وفي حال كون المدين عاملاً، فإن كمية العمل اللازمة لتسديد دين معين ستكون أقل في حال ارتفاع الأسعار.
أما في حال انخفاض الأسعار فإن المدينين يخسرون، لأن عليهم تخصيص كميات أكبر من السلع والخدمات لتسديد دين معين. ويكسب الدائنون لأن النقود التي يستردونها ستمكنهم من شراء كميات من السلع والخدمات أكثر مما كانت تشتري حين إقراضها. وكذلك العمال يخسرون، لأن كمية العمل اللازمة لتسديد دين معين ستزداد في حال انخفاض الأسعار.
وعلى ضوء ذلك فأنه يمكن القول بوجه عام، أن جميع المدينين يكسبون من ارتفاع الأسعار ويخسرون من انخفاض الأسعار، طالما أن التزاماتهم النقدية الثابتة تعني أكثر بدلالة السلع والخدمات عندما تنخفض الأسعار، وأقل عندما ترتفع الأسعار. والدائنون من الناحية الأخرى، يكسبون عندما تنخفض الأسعار، ويخسرون عندما ترتفع الأسعار .
وسيكون أثر ارتفاع الأسعار على جماعة المستهلكين سلبياً، والسبب في ذلك أنهم يحصلون على كميات أقل من السلع والخدمات بنفس المبلغ من الدخل النقدي الذي يحصلون عليه. ويكسب المستهلكون في حال انخفاض الأسعار، لأنهم يشترون كميات أكثر من السلع والخدمات، بنفس الدخل النقدي الذي يحصلون عليه ويكونون قادرين على تحسين مستوى معيشتهم.
إن تغير الأسعار الزائد عن الحد في أي من الاتجاهين سيكون له أثر سيئ على المشروعات الاقتصادية، طالما أنها تثير الكثير من الشكوك بخصوص التوقعات المستقبلية. لذلك فالمحافظة على استقرار نسبي في الأسعار يعد أمراً ضرورياً لتحقيق تنمية مستدامة.
مكافحة التضخم
ولمحاربة التضخم والحد من آثاره السلبية، لا بد من اتخاذ العديد من الإجراءات. ومن بين هذه الإجراءات، الإجراءات النقدية التي تهدف إلى خفض الإنفاق الكلي، حيث تعمل السياسة النقدية عن طريق التحكم في تكلفة الائتمان وإتاحته.
فعندما يحدث التضخم يستطيع البنك المركزي رفع تكلفة الاقتراض وتخفيض مقدرة البنوك التجارية على خلق الائتمان. وهذا سيؤدي إلى انخفاض الطلب على الاقتراض، كما تصبح تكلفته أكثر من ذي قبل. ومع انخفاض مقدرة البنوك على خلق الائتمان، ستكون أكثر حذراً في سياستها الائتمانية. والنتيجة ستكون انخفاض حجم الإنفاق النقدي الكلي.
وهذا يتم أيضاً عن طريق زيادة سعر الخصم، رفع سعر الفائدة، عمليات السوق المفتوحة (يقوم البنك المركزي ببيع أوراق مالية حكومية إلى الجمهور أو إلى البنوك التجارية)، رفع نسبة الاحتياطي النقدي في البلاد (الطلب إلى المصارف التجارية الاحتفاظ بحد أدنى معين من النقدية بالنسبة إلى حجم ودائعها). القيود النوعية على الائتمان وبخاصة الاستهلاكي.
ومن الممكن محاربة التضخم عن طريق الإجراءات المالية، حيث ان السياسة المالية للحكومة يمكن أن تسهم في السيطرة على التضخم عن طريق خفض الإنفاق الخاص وذلك بزيادة الضرائب على القطاع الخاص، أو عن طريق خفض الإنفاق الحكومي. أو عن طريق مزج كلا العنصرين المذكورين أعلاه. وبذلك تتضمن الإجراءات المالية لمحاربة التضخم : خفض الإنفاق الحكومي، فرض ضرائب جديدة أو زيادة نسبة الضرائب القديمة لتخفيض حجم الدخل الممكن التصرف فيه في أيدي الناس وتشجيع الادخار. تخفيض عرض النقود عن طريق تحسين مستوى أداء إدارة الدين العام. رفع سعر صرف العملة المحلية تجاه العملات الأجنبية.
كما يمكن محاربة التضخم عن طريق زيادة الإنتاج وزيادة الواردات وتقليل الصادرات بهدف زيادة العرض المتاح من السلع، التحكم بالأجور النقدية لإبقاء التكاليف منخفضة. الرقابة على الأسعار وغيرها.
ويمثل التضخّم النقديّ أحد الأمراض الاقتصاديّة والاجتماعية التي تعبث في جسد الاقتصاد القوميّ وتُحدث فيه اختلالات سيئة، وقد انتشر هذا المرض في عدد كبير من دول العالم، واشتدت الموجات التضخّمية، خاصة في السبعينيات من هذا القرن، حتى تحولت إلى ظاهرة عالمية تجندت لدراستها العقول الاقتصاديّة؛ بغية الوصول إلى حلول لإيقاف هذا الخطر الزاحف وتلافي آثاره السيئة.
ويرجع التضخّم في جوهره إلى اضطراب قُوَى الإنتاج وعدم كفايتها في الوفاء بحاجات الأفراد المتزايدة.
أو بعبارة أدق: ينشأ التضخّم نتيجة عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار، ونتيجة لضعف الطاقات الإنتاجية في الاقتصاد القومي. ويترتب على هذه الاختلالات ارتفاع متواصل في الأسعار، فيؤدي إلى ارتفاع الأجور وأثمان العوامل الإنتاجية، وسائر تكاليف الإنتاج، يليه ارتفاع متتالٍ في الأسعار، وهكذا.
ويُرجع الاقتصاديّون الكلاسيك التضخّمَ النقديّ أساسًا إلى ظاهرة نقديّة خالصة، تتمثل في ارتفاع معدل الطلب كنتيجة لزيادة كمية النقود في الاقتصاد، مما يترتب عليه ارتفاع مستويات الأسعار؛ نظرًا لثبات حجم الإنتاج وسرعة دوران النقود، وهو نفس ما ذهبت إليه النظرية العامة لكينز(3)، حيث تتبلور ماهية التضخّم في وجود فائض في الطلب يفوق المقدرة الحالية للطاقات الإنتاجية، وتكون الفجوة التضخّمية هي التعبير عن هذا الاختلال بين الطلب والعرض.
المدرسة السويدية
وأضافت المدرسة السويدية إلى النظرية الكَمِّيّة للنقود عاملاً جديدًا، فجعلت للتوقعات أهمية خاصة في تحديد العلاقة بين الطلب الكليّ والعرض الكليّ. وترى هذه المدرسة أن هذه العلاقة لا تتوقف فقط على مستوى الدخل - كما ترى النظرية الكينزية - وإنما تتوقف على العلاقة بين خطط الاستثمار وخطط الادخار وقد أدى استمرار التضخّم النقديّ مع وجود معدلات عالية من البطالة الى انتشار ظاهرة التضخّم الركودي.
مدرسة شيكاغو
وأدت ظاهرة التضخم الركودي إلى عودة اقتصاديي مدرسة شيكاجو، وعلى رأسهم ميلتون فريدمان، إلى النظرية الكمية للنقود، حيث يرون أنه لا توجد علاقة على المدى الطويل بين التضخّم والبطالة، وأن التضخّم ظاهرة نقديّة بحتة ترجع إلى نمو النقود بكمية أكبر من نمو كمية الإنتاج، أي أن حالة التضخّم ترجع إلى زيادة واضحة في متوسط نصيب وحدة الإنتاج من كمية النقود المتداولة.
الاتفاق والاختلاف
ويتفق اقتصاديّو الفكر النقديّ على أن معالجة ظاهرة التضخّم المعرقلة لعملية التنمية لن تتم إلا من خلال رسم سياسة نقديّة وماليّة حكيمة وغير تضخّمية، تستهدف تحقيق التوازن بين كمية النقود وحجم الناتج عن طريق تغيير الائتمان المصرفيّ وامتصاص فائض الطلب.
البنيويون أو الهيكليون
ويقابل هذا الاتجاه للاقتصاديّين النقديّين الذين ركزوا على الجانب النقديّ من ظاهرة التضخّم اتجاه آخر يرى في التضخّم ظاهرة اقتصاديّة واجتماعية ترجع إلى الاختلالات الهيكليّة الموجودة بصفة خاصة في الاقتصاديّات المختلفة. وقد عُرف اقتصاديّو هذا الاتجاه بالهيكليّين ، وقد كان شولتز أول من لفت النظر إلى أهمية التحليل الهيكليّ للتضخّم الذي يبين وجود خلل هيكليّ ناشئ عن عجز بنيان العرض عن التغير ليتلاءم مع تغير بنيان الطلب، نظرًا لعدم مرونة الجهاز الإنتاجيّ. ويضيف شولتز إلى هذا الخلل عدمَ وجود بطالة والاقتراب من مستويات تشغيل عُليَا.
ولا يقتصر ارتفاع الأسعار على تلك المنتجات التي زاد الطلب عليها، وإنما يمتد إلى منتجات الصناعات التي انخفض الطلب عليها أيضًا؛ نظرًا لقوة نقابات العمال التي تُسهم في تجميد الأجور، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الخام التي تشترك هذه الصناعات في استخدامها مع الصناعات التي زاد الطلب على منتجاتها.
ويرى الاقتصاديّون الهيكليون أن العوامل الهيكليّة الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية هي التي تَربِض - في المجال الأخير - وراء زيادة الطلب ووراء الإدارة النقديّة والماليّة السيئة في تلك الدول، فيفسِّرون القوى التضخّمية بمجموعة من الاختلالات تشمل: الطبيعة الهيكليّة للتخصص في إنتاج المواد الأولية، وجمود الجهاز الماليّ للحكومات، وضآلة مرونة عرض المنتجات الغذائية، فضلاً عن طبيعة عملية التنمية وما تولده من اختلالات في مراحلها الأولى. ويخلُص الاقتصاديّون الهيكليون إلى ضرورة معالجة هذه الاختلالات الهيكليّة للقضاء على ظاهرة التضخّم التي تعاني منها الاقتصاديّات المتخلفة بصفة خاصة؛ بغية مواصلة جهود التنمية والمحافظة على مواردها.
ويرى اقتصاديون آخرون أن التضخم النقدي أحد الأمراض الاقتصاديّة التي تنهش جسد الاقتصاد القوميّ وتُحدث فيه اختلالات سيئة. ويؤكدون أن التضخّم ينشأ نتيجة عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار، ونتيجة لضعف الطاقات الإنتاجية في الاقتصاد القوميّ، ويترتب على هذه الاختلالات ارتفاع متواصل ومتتالٍ في الأسعار.
ويشيرون إلى الاقتصاديّين الكلاسيكيين الذين يُرجعون التضخّمَ النقديّ أساسًا إلى ظاهرة نقديّة (تتعلق بالنقود)، تتمثل في ارتفاع معدل الطلب كنتيجة لزيادة كمية النقود في الاقتصاد.
ويقولون أن البعض الآخر جعل للتوقعات أهمية خاصة في تحديد العلاقة بين الطلب والعرض. والتوقعات تعني العلاقة بين خطط الاستثمار والادخار. كما أن بعض الاقتصاديّين يرون في التضخّم ظاهرة اقتصاديّة واجتماعية ترجع إلى الاختلالات الهيكليّة (تخلف الوضع الإنتاجي العام) الموجودة بصفة خاصة في الاقتصاديّات المختلفة.
توزيع الفائض النقدي
ويترتب على تخصص الاقتصاديّات في إنتاج المواد الأولية تعاظم أهمية قطاع الصادرات في الاقتصاد القوميّ، وهو ما يعرّض هذه الاقتصاديّات دائمًا لموجات متجددة من عدم الاستقرار النقديّ عند تعرض أسعار هذه المنتجات للتذبذب في الأجل القصير. ففي حالة ارتفاع أسعار الموادّ الخام الأولية التي تنتجها هذه البلاد بمعدلات أعلى من معدلات ارتفاع أسعار وارداتها، فإن هذا التحسن في شروط التبادل الدوليّ يكون مصحوبًا بموجات تضخمية يصعب إيقافها، حتى بعدما تتجه أسعار المنتجات الأولية للانخفاض وذلك نظرًا لعدم مرونة الجهاز الإنتاجي، وعجزه عن مقابلة زيادة الطلب في المنتجات المحلية، ونتيجة لزيادة أجور ودخول أصحاب عوامل الإنتاج المشتغلة في هذا القطاع، وهو ما يترتب عليه ارتفاع تكاليف الإنتاج من ناحية، وزيادة الطلب على المنتجات المحلية- وهو ما يدفعها بشدة نحو ارتفاع الأسعار- من ناحية أخرى.
وإذا ما توافرت لاقتصادٍ ما ميزة نسبية عالية في إنتاج إحدى المواد الأولية، فان عائد الصادرات يسهم في التخفيف من الآثار التضخّمية للتغير في معدلات التبادل الدولية، وذلك بعدم انصراف جزء يُعتَدّ به من عائد التصدير إلى تمويل شراء الواردات من السلع الاستهلاكية المختلفة، وبتوجيه الاستثمار إلى المجالات الإنتاجية المحلية لمقابلة زيادة الطلب الفعال على زيادة الأجور والدخول الموزعة على العاملين في هذه القطاعات الاستخراجية أو قطاعات إنتاج المواد الأولية.
ويسهم ذلك في تغيير هيكل الإنتاج القومي وتنويعه وتقويته، بما يحرر الاقتصاد من عبودية الخضوع للمحصول الواحد، كما يُخلِّص البلاد من التبعية الاقتصاديّة للخارج، وهو هدف بعيد المنال، ينادي الاقتصاديّون الوضعيون بتحقيقه كحلٍّ أمثل، لما يترتب على هذه الاختلالات الهيكليّة من تضخّم ضارٍّ بالاقتصاديات للمواد الأولية
توجيه استثمارات
ويعني ذلك اتجاه رؤوس الأموال للدخول إلى الاستثمار في القطاعات التي يزيد الطلب عليها داخليًّا. ومن أهم هذه القطاعات: القطاع الزراعيّ، الذي يسهم في توفير الاحتياجات الغذائية المتنامية للسكان، وهو ما يسهم في الوقت نفسه في الاحتفاظ بأسعار الأطعمة والمشروبات بعيدًا عن الارتفاع المستمر؛ وبذلك تسهم في التخفيف من حدة المشكلة الغذائية، التي تعاني منها الاقتصاديّات الوضعية الآخذة في النمو، وتُعَدّ سببًا رئيسيًّا من أسباب الموجات التضخّمية التي تشهدها هذه الدول.
النظم الضريبية
وتتسم النظم الضريبية للبلاد المتخلفة اقتصاديًّا بالتخلف والجمود، وهو ما يعبَّر عنه في الكتابات الحديثة بضآلة حجم الجهد الضريبيّ ؛ حيث نجد أن متوسط الأنصبة الضرائبية إلى إجمالي الناتج القوميّ يتذبذب حول 15بالمائة، بينما تمثل الضرائب على الدخول نصيبًا ضئيلاً نسبيًّا من إجمالي المتحصلات الضريبية إذا ما قُورِنَت بالنصيب النسبيّ للضرائب غير المباشرة. أما عدد السكان الذين يدفعون الضرائب فلا تزيد نسبتهم في المتوسط عن 5بالمائة من إجمالي السكان .
ويُرجع الاقتصاديون جمود الجهاز المالي إلى تخلف الأجهزة الإدارية للنظام الضريبي، وعدم كفايتها، فضلاً عن سيطرة أصحاب المصالح الخاصة على المؤسسات التشريعية، ووقوفهم حجر عثرة أمام كل محاولة لتطوير هذا النظام
التضخم المقرون بالعجز
إن ضآلة مرونة الحصيلة الضريبية تجاه التغير في حجم الدخل تزيد من مشكلة جمود الجهاز المالي وآثاره على الاقتصاد؛ حيث يُترجَم هذا الأمر بعدم نمو الحصيلة الضريبية، بما يتناسب وحجمَ الإنفاق اللازم لتحقيق معدلات التنمية المطلوبة، ويؤدي بالتالي إلى زيادة العجز في الموازنة العامة للدولة، وهو ما يسهم في زيادة عرض النقود في الاقتصاد القومي بسبب لجوء الدولة إلى الجهاز المصرفي لتمويل هذا العجز.
ويَعتبر الهيكليون أن التخلص من جمود الحصيلة الضريبية- كسبب مهم وراء زيادة عرض النقود التضخمي- يكون عن طريق زيادة كفاءة النظام الضريبي في رفع نسبة الضرائب إلى الدخل القومي، وعن طريق سياسة مالية فعالة تؤدي إلى تشجيع الادخار وزيادة الاستثمار، وتنعكس في النهاية في قوة دفعها لعجلات التنمية.
تفادي اختلالات التنمية
ومن الاختلالات الهيكليّة التي تعاني منها الاقتصاديات الآخذة في النمو وتُعرِّضها لضغوط تضخمية، تلك التي تصاحب البدء في العملية التنموية، وتُعتبَر لصيقة بها وتتمثل هذه الاختلالات الهيكلية في وجود فترة زمنية بين تكوين رأس المال الاجتماعي I وانعكاس آثاره على رفع مستوى الإنتاجية في مختلف القطاعات. وهذا الاختلال يجد مصدره في:
الطبيعة المزدوجة للاستثمار؛ حيث تكون الطاقة الإنتاجية الجديدة ذات طبيعة متخصصة بينما تؤدي الدخول النقدية التي توزعها إلى توليد طلب فعال أكثر عمومية طول فترة الإنشاء للمشروعات الإنشائية الجديدة، وخاصة في حالة الصناعات الثقيلة، في حين تقوم بتوزيع دخول نقدية تمثل طلبًا متزايدًا على السلع التي لم يَزِدء عرضها بعد.
وعدم تزايد المقدرة على استيراد المكوِّن الأجنبيِّ اللازم لصناعة السلع الصناعية المحلية بمعدل أسرع من معدل نموِّ الإنتاج، وبصفة خاصة بالنسبة للصناعات التي تنتج إنتاجًا يَحل محل الواردات.
إضافة الى تحولات بنيان العرض والطلب لبعض منتجات قطاعات خاصة، في الوقت الذي تنخفض فيه المرونة السعرية لهذه المنتجات.
وقضية التفاوت في توزيع الدخول التي تصاحب عملية التنمية؛ حيث تستحوذ قلة صغيرة من بعض الشرائح الاجتماعية الغنية على معظم ثمار التنمية، وتتسم هذه القلة بسلوكها الإنفاقي: الترفي، والبذخي.
ويرى الهيكليون أن التضخم الطفيف والمعتدل الذي ينشأ عامةً في أُولَى مراحل التنمية لا يمثل خطرًا كبيرًا، طالما اتبَعَت السياسة الاقتصادية السعرية والتوزيعية الرشيدة، التي تخفف منه، وتعمل على مكافحته. وتتمثل المعالجة الجذرية للتضخم في هذه الحالة في الإسراع بمعدلات النموِّ الاقتصادي عن طريق سياسة حازمة ورشيدة لتوزيع الدخل القومي فيما بين الاستهلاك والاستثمار، سياسة تهدِف - فيما تهدف - إلى الاستغلال الأمثل لموارد المجتمع، وتشغيل طاقاته الإنتاجية عند أعلى المستويات.
ومثل هذه الصناعة لا يمكن تحقيقها إلا إذا قامت الدولة بالتضييق على استهلاك الطبقات والشرائح الغنية، وزيادة الضرائب المفروضة عليها، واستخدام الفائض الناجم عن ذلك في زيادة معدلات الاستثمار، ومن ثَمَّ زيادة كفاءة الاقتصاد القوميّ في التنمية المستمرة لعرض السلع والخدمات.