في ستينيات القرن العشرين، أجرى عالم السلوك الأمريكي جون ب. كالهون (John B. Calhoun) واحدة من أكثر التجارب إثارة للجدل في علم النفس والسلوك الاجتماعي، عُرفت لاحقاً باسم "الكون 25" (Universe 25). كانت هذه التجربة بمثابة محاكاة مصغّرة للحياة في مجتمع مكتظ، هدفها فهم تأثير الازدحام والوفرة على الكائنات الحية، وما إذا كان الانهيار الاجتماعي نتيجة حتمية لمثل هذه الظروف.
بدأ كالهون أبحاثه منذ خمسينيات القرن العشرين، حيث صمّم بيئات معيشية للفئران ليراقب سلوكها في ظل وفرة الموارد والازدحام. أطلق على كل بيئة مصغّرة اسم "كون" (Universe) لأنها تمثّل عالماً مستقلاً قائماً بذاته.
أجرى 24 تجربة سابقة انتهت جميعها إلى نتائج مشابهة: نمو سريع للسكان، ثم اضطرابات اجتماعية، وأخيراً انهيار المجتمع.
وعندما وصل إلى التجربة الخامسة والعشرين، التي كانت الأكثر اكتمالاً وتنظيماً، أطلق عليها اسم "Universe 25". ومن هنا اشتهرت التجربة بهذا الاسم.
قام كالهون ببناء "جنة للفئران"، صندوقاً كبيراً يحتوي على:
غذاء وماء غير محدودين.
بيئة آمنة خالية من المفترسات والأمراض.
أماكن متعددة للتعشيش والتكاثر.
أدخل كالهون في البداية أربعة أزواج من الفئران، ثم راقب تطوّر مجتمعها عبر سنوات.
من أبرز ملاحظات كالهون ظهور مجموعة سلوكيات غريبة عُرفت باسم "الجميلين" (The Beautiful Ones). كانت هذه الفئران تقضي وقتها في الأكل، والنوم، وتنظيف نفسها باستمرار، دون أي تفاعل اجتماعي أو سلوك تناسلي. ورغم أنها بدت بصحة جيدة ومظهر جميل، إلا أنها كانت انعكاساً للانفصال التام عن وظائف الحياة الطبيعية، ودليلاً على بداية النهاية.
اعتبر كالهون ما حدث نوعاً من "الموت السلوكي" (Behavioral Sink)، أي انهيار في القيم والسلوكيات التي تضمن استمرار المجتمع، رغم توافر مقومات البقاء المادي. وقد رأى البعض أن التجربة تحمل رسالة تحذيرية للبشرية: الوفرة المطلقة لا تعني بالضرورة الازدهار، بل قد تؤدي إلى التدهور والانقراض إذا غاب التوازن والمعنى.
في المدن الكبرى اليوم، يلاحظ علماء الاجتماع بعض أوجه التشابه: العزلة، ضعف الروابط الأسرية، العنف الحضري، وتراجع معدلات الخصوبة في بعض المجتمعات.
غير أن الإنسان يختلف عن الفئران بامتلاكه الوعي والثقافة والقدرة على ابتكار حلول، مثل التخطيط العمراني، والرعاية الاجتماعية، والدعم النفسي، ما قد يجنّبه مصير "الجميلين".
تجربة الكون 25 لم تكن مجرد دراسة عن الفئران، بل كانت مرآة مصغّرة للمجتمعات البشرية. لقد أظهرت أن الازدحام والوفرة قد يقودان إلى انهيار داخلي إذا لم يقترنا بروابط اجتماعية متينة وقيم إنسانية واضحة. وبينما يظل مصير الفئران في الكون 25 محتوماً، يبقى أمام الإنسان خيار آخر: أن يتعلّم من التجربة، ويبحث عن التوازن بين التقدّم المادي والجانب الإنساني الذي يضمن بقاء الحضارة.
Powered By Dr.Marwan Mustafa